أصبح جمال يؤمن بأن له التزاما أخلاقيا تجاه الأطفال الفقراء بالمغرب بعد الانتقادات التي وجهت له بورزازات


جمال الدبوز يعرف جيدا معنى أن يكون الإنسان فقيرا أو بئيسا أو معاقا؛ لذلك لم يكن ليبخل على المحتاجين بالمساعدة متى أمكنه ذلك، خاصة الأطفال الفقراء في المغرب. خاصية الاقتسام ومشاركة الآخرين محنتهم تعلمها في البيت على يد أمه، التي يقول عنها جمال: «التضامن يجري في دمها؛ لم تكن تكتفي بتحضير الطعام لشخصين، بل دائما تحضر ما يكفي ويزيد. مساعدة الآخرين خاصية فطرية فيها.». أما الإيثار، فقد عرفه في العمل الجمعوي. «لو لم يمد لك أحد يد المساعدة في لحظة ما، من الصعب أن تكمل الطريق وحدك. تعلمت هذا، يقول جمال، من العمل الجمعوي. لا يمكن النجاح في الحياة بالانعزال... الآن، في مستطاعي مساعدة الآخرين، أريد أن أقوم بذلك متى أمكن.»
رغم ذلك، كان من سوء حظه أن قادته خطواته الأولى في العمل الخيري نحو النفق المسدود. فمنذ سنة 1999 عهد لوكيلة أعماله نادية مورين، بدون تردد، بإدارة الأموال التي خصصها لمساعدة الأطفال الأيتام بالمغرب؛ لكنه فوجئ بأن أمواله ذهبت سدى دون أي أثر للأعمال الخيرية على أرض الواقع بينما كان هو منشغلا بالعمل واللقاءات المهنية بمسرح محمد الخامس بالرباط. أين الأموال، إذن؟ لماذا تختفي بمجرد أن يكون الهدف من صرفها هو الأعمال الخيرية؟.
كان طبيعيا أن توجه الشكوك إلى نادية مورين، التي كانت تتحكم في الميزانية. لكن جمال انكب، شخصيا، على مراجعة حساباته البنكية ليكتشف أن مئات الآلاف من الفرنكات تبخرت خاصة من حساباته في بنك «القرض الصناعي والتجاري»، فتحدث في الأمر مع وكيلة أعماله وأخبرها بنيته في متابعة البنك أمام القضاء بتهمة إجراء اقتطاعات من حسابه دون إذن. لكن الحقيقة هي أن وكيلته هاته، نادية مورين، هي التي قامت بهذه العمليات وبررت ذلك بأنها تمت بإذن من صاحبها.
رغم ذكائها الكبير في عالم المال والأعمال، لم تفطن نادية بورين إلى الخطر القادم. فقد ضيق عليها هذا الوسط المجال لأنها معروفة بصرامتها في التفاوض، واتفق الجميع على إبعادها عنهم قبل أن تدرك أنه لم يعد لها من خيار آخر غير الانفصال عن الدبوز دون أن تتقاضى عمولتها عن تفاوضها لمصلحة جمال في سلسلة «H»، ولا في فيلم Astérix. وقوبل قرار انصرافها بارتياح كبير في الوسط الفني والأعمال، قبل أن يقرر جمال الدبوز مقاضاتها هي وأختها في شهر مارس 2001.
منذ أن وصلته انتقادات أبناء بلده الأصلي في ورزازات، ظل جمال يؤمن بأن له التزاما أخلاقيا وماليا تجاه الأطفال الفقراء في المغرب. وسرعان ما أتيحت له الفرصة للبرهنة على حسن نيته في الدار البيضاء خلال أمسية فنية نظمت من قبل غرفة التجارة البريطانية أحياها هو وكاد المالح. وقبل الموعد ببضع ساعات، زار جمال مقر جمعية «ساعة فرح» الخيرية ليصدم بمشهد خمس أمهات يحضن أطفالهن المرضى، الذين لا تتجاوز أوزانهم بالكاد كيلوغرام واحد. رئيسة الجمعية، ليلى الشريف، كانت شاهدة على هذا المنظر الذي صدم له: «اندهش جمال كثيرا، فتمنى لو كان في إمكانه أن يقدم المساعدة في الحال لهم، قبل أن يقول: «سأحجز طائرة خاصة في الحال لنقل هؤلاء الأطفال إلى باريس للعلاج.» إلا أنني أجبته بأنه لا يمكن نقلهم إلى فرنسا لأنه لدينا في المغرب الوسائل والإمكانات الضرورية لإجراء عمليات لهم وأن جمعيتنا تتكلف بنفقات العملية الجراحية بتعاون مع المستشفيات العمومية بالدار البيضاء.»
وفي مساء نفس اليوم، حكى جمال بفندق حياة رجنسي، حيث كانت كل مائدة محجوزة بمبلغ 300 أورو للشخص، ما رأته عيناه في مقر جمعية «ساعة الفرح»، قبل أن يبدأ تقديم عرضه الفكاهي، الذي اختتم بحفل للبيع بالمزاد العلني استطاع أن يجمع ما لا يقل عن 100 ألف أورو.
يبقى جمال الدبوز استثنائيا في كرمه وسخائه تجاه المحتاجين، وهو في ذلك يختلف عن الكثير من الذين لا يتعدى مستوى السخاء عندهم عتبة الزيارات للجمعيات المعنية بالعمل الخيري. تقول ليلى الشريف في هذا الباب: «لقد استقبلنا العديد من الشخصيات المعروفة (محمد علي، جاك أتالي، صوفي مارسو، اسماعين، جون بول بيلموندو، إلخ)، لكن لا أحد منهم انخرط في العمل الخيري بنفس الحرارة التي أبداها جمال. باستثناء كاد المالح، الذي ولد في الدار البيضاء، والذي يقدم الكثير للمغرب، جل الشخصيات المشهورة تأتي إلى هنا في زيارة سريعة، ثم تنصرف. لا بل إنني أضطر، في بعض الأحيان، إلى رفض بعض الشخصيات الملحاحة في طلباتها. فقد اتصلت بي ذات يوم مليتا توسكان دو بلانتيي، زوجة المنتج السينمائي، واقترحت علي أن أستقدم ناتالي باي وإمانويل بيار؛ لكن كان علي أن أتكفل ببطاقة سفرهما ووضع سيارة ليموزين رهن إشارتهما. فألغيت الفكرة وفسرت ذلك بكوننا لا نملك الميزانية الكافية. وعندما اقترحت علي مخاطبتي أنها ستحاول الاتصال بالقصر للحصول على الامتيازات المذكورة، تملكني الغضب...».
الوضع الاجتماعي في المغرب يقلق جمال إلى حد بعيد، خاصة الوضع الذي يعاني منه الشباب. شبابٌ كان من الممكن أن يكون جزءا منه، ففضل الاعتناء، خاصة، بأطفال بلده الأصل: «قضية الأطفال بالنسبة لي أساسية. وفضلا عن أنني أحب الأطفال، أجد أن الأطفال المغاربة متروكون لمصيرهم على المستوى الدراسي كما على المستوى الصحي. مستقبل البلاد يتجلى في انفتاح أبنائه على الخارج. لدينا عباقرة في المغرب قادرون على قرصنة أكبر الأنظمة المعلوماتية في العالم... لماذا لا تستغل هذه الطاقة. أعتقد أن الأطفال المغاربة من أكثر الأطفال خصوبة وعطاء، لكنهم لا يجدون التقدير الذي يستحقونه».

جمال أصبح يفرض المبلغ الذي يريد مقابل أدائه في كل عمل فكاهي أو سينمائي


بعد نهاية تصوير فيلم Astérix وعد جمال التقنيين المغاربة بأنه سيستثمر شخصيا في السينما المغربية. أما الفيلم، الذي خرج إلى القاعات في 30 يناير 2002 وعرض في 945 قاعة عرض سينمائية فرنسية فقد شوهد 577 488 14 مرة، ليكون بذلك هو ثاني فيلم يحقق هذا الرقم في تاريخ السينما الفرنسية بعد فيلم « La Grande Vadrouille»، الذي شوهد 17 مليون مرة.
وتطبيقا للعقد الذي يجمعه بالمنتج، حصل الدبوز على 2.120 مليون أورو، وهو ما جعل منه الممثل الفرنسي الأكثر دخلا على الإطلاق في سنة 2002؛ ويعود الفضل في ذلك، خاصة، إلى البند الذي ينص على أن يدفع المنتج لجمال ما قيمته 000 274 أورو، فضلا عن 0,14 أورو عن كل مشاهدة إذا تعدى عدد مشاهدات الفيلم في قاعات العرض 8 ملايين مرة.
لقد كان هذا البند مربحا بالنسبة لجمال على اعتبار أن المنتج كلود بيري والممثلين الرئيسيين، دبارديو وكريستيان كلافيي، لم يكونا يتوقعان كل هذا النجاح للفيلم، علما بأن دبارديو حصل على 1.4 مليون أورو، وكلافيي على 1.65 مليون أورو.
هذه النتائج الاستثنائية التي حققها الفيلم جعلت جمال يتصدر غلاف الملحق الاقتصادي الأسبوعي لصحيفة «لوفيغارو».
أصبح جمال يفرض المبلغ الذي يريد مقابل أدائه في كل عمل فكاهي أو سينمائي. لم يعد يقبل بأقل من مليون أورو عن كل فيلم. وعلى هامش العروض التي صارت تتقاطر عليه من كل جانب، استمرت مداخيل جمال غير منقطعة بفضل العقد الإشهاري الذي وقعه مع شركة أورانجينا، التي دشنت حملة إعلانية تريد أن تجدد بها صورتها التي تقادمت في عيون المستهلكين.
لقد أصبح جمال الدبوز رجل أعمال حقيقي بفضل أربعة مصادر مالية حقيقية هي: الإعلانات الإشهارية التي أنجزها في المغرب (اتصالات المغرب) وفرنسا، ومبيعات تسجيلات الـ «في آش إس» والـ «دي في دي» ومداخيل فيلم Astérix et Obélix, Mission Cléopâtre» والدبلجة التي قام بها لاستوديوهات ديزني (فيلم الدينصور).
أما المال، فلا يخجل من كسبه، ولا من عرضه ولا من صرفه ولو بشكل مبالغ فيه انتقاما من الزمن الذي كان فيه معدما، فقيرا. يقول جمال: «تمنيت كل حياتي أن أملك ما أملكه اليوم. هرولت طيلة حياتي لأفعل ما أفعله اليوم، لأصعد إلى الخشبة، ولتنجح أعمالي، ولأقود أجمل السيارات، ولأستقبل مثل الأمراء في العلب الليلية ولأصطحب معي إليها 15 صديقا، ولأرتاد المطاعم الراقية. اليوم يريدونني أن أختبئ؟ لا يمكن. أنا أنظر إلى الناس في عيونهم، وليس لي أي مشكل مع المال، الذي أحصل عليه، والذي أعيش به.».
لا يكترث جمال لقيمة المال؛ حتى عندما كان لا يتقاضى إلا 700 2 فرنك في الشهر بكوليج غاغارين، كان يتجه رأسا لشراء فردتي حذاء «نايك» مقابل أكثر من 000 1 فرنك.
اليوم يفخر الدبوز بما حققه من نجاح، وبما امتلكه من أشياء قيمة كان يحلم بها... «حلمت دائما بأن أركب سيارة فيراري. وعندما حققت حلمي، أخيرا، أجلست جدي إلى جانبي في السيارة من فرط فخري بما أنا فيه. وعندما رأى الحصان، رمز فيراري كما هو الأسد رمز طراز بوجو، قال لي: «أي سيارة بوجو هاته؟» قلت له: «إنها سيارة فيراري.» فأجابني: «هي فيراري، موديل بوجو، إذن !».»
النجاح الذي حققه جمال أخل إلى حد ما بالتوازن القائم بالبيت والمبني على سلطة الأب. بل إن جمال نفسه شعر بنوع من الذنب تجاه كونه صادر من والديه، فجأة، الإيقاع الذي كانت تسير عليه حياتهما البسيطة. يستعيد جمال بعض تفاصيل هذا التحول حين يقول: «عندما تسلمت 5 ملايين فرنك عن دوري في فيلم Astérix، فكرت مباشرة في أبي الذي عمل في شركة كوماتيك بممرات الميترو مقابل 000 5 فرنك في الشهر...».
أما الأم فاطمة، فهي سعيدة بنجاح ابنها، وإن كانت لم تستطع إخفاء تضايقها عندما دعاها ابنها إلى العشاء في أحد أفخر المطاعم أو عندما ملأ لها عربة التبضع بأرقى المنتوجات من أحد أكبر الأسواق الممتازة. لكن ما يقلقها هو أن ترى ابنها ينفق الكثير من الأموال في أشياء تافهة وسطحية. لكنها تصبح غاية في السرور عندما يقدم جمال بطاقات سفر للعائلة كلها لتسافر إلى المغرب حيث تلتقي بجذورها العائلية.
وأما الوالد أحمد، فقد أقعده المرض على العودة إلى ممرات الميترو، فأوصى به أحد أكبر الأطباء المختصين في الأعصاب بالدار البيضاء. إلا أن شهرة جمال ونجاحه بدآ يغيران من طبيعة علاقة السلطة بالبيت؛ إذ لم يعد الأب احمد صاحب الحل والعقد كما في الماضي؛ بيد أن الأب صار يستفيد من حياة الترف التي يعيشها ابنه.
الأخوان مومو وكريم كذلك حققا بعضا من أحلامهما حين اصطحبهما جمال، في رحلة العمر، إلى أمريكا؛ إلى كاليفورنيا حيث لوس أنجلس وهوليود واستوديوهات السينما وسيارات كادياك وشاطئ ماليبو... أي كل ما شكل حلمهما في الحياة.
هناك في بلد الأحلام الكبيرة، التقى جمال بصديقه، سنوب دوغ، مغني الراب الأفروأمريكي؛ بينما تتابع مسلسل الأحلام باللقاء مع المخرج سبايك لي، الذي اقترح على جمال المشاركة في فيلمه القادم. لم يكن جمال ليرفض، لأن الفكرة ستفتح له، ربما، عوالم أخرى. فالمخرج ليس بالنكرة في عالم هوليود. غير أن ثمة عائقا حال دون جمال والفوز بدور مهم. فالفكاهي المغربي الفرنسي لا يتقن اللغة الإنجليزية؛ لذلك اكتفى في الأخير بدور ثانوي في فيلم «She hate me»، وهو دور حارس عمارة.
اتفق المخرج الأمريكي وجمال أيضا على أن يوقع الأول «دي في دي» العمل الفكاهي، وان مان شو، الذي كان ينوي إنجازه رفقة صديقه قادر عون، إلا أن الاتفاق ظل كلاما ليس إلا.

جمال يعود إلى بيته مجروحا بعد أن نسف بعض أبناء الضاحية انطلاقة جولته الفنية


على إثر النجاح الذي كلل الأمسية الكبيرة التي نظمت بمناسبة افتتاح مسرح «دكليك تياتر»، كان جمال وعد بمنح مدينته طراب شرف بدء أول جولة فنية كبيرة له في مساره المهني. فتقرر، إذن، أن يبدأ الجولة يوم فاتح فبراير 2000 في حي» ميريزيي»، وتشمل 60 عرضا لمدة 3 أشهر يزور خلالها مدن مرسيليا وليون وتولوز وكليمون فران وليل وستراسبورغ وغرونوبل، كما تشمل الجولة مدينتي لييج وبروكسيل في بلجيكا وجنيف ولوزان في سويسرا... إلخ.
ومن أجل فسح المجال لأكبر عدد ممكن من أبناء الأحياء الشعبية ليتمكنوا من مشاهدة العرض خفض جمال ثمن تذكرة الدخول ليظل في متناول الجميع. تقرر تقديم العرض في قاعة «لاميريز»؛ وهي القاعة نفسها التي تعرض فيها الكوميدي الناشئ لإهانة من قبل الجمهور قبل خمس سنوات وأقسم أن يعود إليها ليقدم فيها عرضا كبيرا حين يصبح نجما.
جلس في مقدمة الحاضرين عدد من الشخصيات القريبة من الكوميدي المعروف منهم والدته فاطمة ووالده أحمد وإخوانه وأخواته وأساتذته السابقون في كوليج غوستاف كوربي وثانوية هنري ماتيس والعمدة السابق لمدينة طراب، برنار هوغو، والعديد من المسؤولين الجمعويين والأصدقاء وزملاؤه في المسرح الارتجالي.
امتلأت القاعة عن آخرها لأن أغلب الحاضرين جاؤوا ليشاهدوا عرض ابن المدينة الذي برهن على إمكانية النجاح رغم الانتماء إلى الوسط الشعبي، المهاجر، الفقير...
فجأة سارت الأمور على غير ما يرام. فبعد أن انطلق العرض بشكل عادي، تعالت أصوات من عمق القاعة للتشويش على جمال وعرقلة عرضه. إلا أن جمال حافظ على هدوئه لأنه يعرف طبيعة هؤلاء الذين ألفوا خلق البلبلة في مثل هذه المناسبات العامة. وللتمكن من احتواء الوضع، حاول فتح نقاش مع الجمهور من باب الاحترام وفرض الاحترام على الجمهور إلا أن الجمهور بادل مبادرة جمال بمزيد من الصفير والسباب والشتم.
كانوا حوالي 60 شابا لا تتجاوز أعمارهم 18 سنة خلقوا فوضى لم تكن تلقائية، بل يعتقد أنها كانت بتوصية من طرف خارجي لم يكن يريد النجاح لجمال في مساره المهني. طلب بقية الحضور من الفوضويين الصمت حتى يتسنى لهم متابعة العرض، إلا أن الأخيرين ظلوا على حالهم، فطلب جمال من أخيه كريم، الذي كان مسؤولا عن التسيير التقني العام للعرض، أن يتدخل لدى تقني الإنارة ليوقف برنامج الإنارة، ليتوقف العرض لبعض الوقت في محاولة لثني الفوضويين عن الكف عن عملهم قبل أن يتدخل جمال مرة أخرى ليطلب الصمت.
هدأت القاعة لبعض الوقت، إلا أنه سرعان ما عاد الضجيج كما كان وعاد الشبان المشاغبون للنداء على بعضهم البعض بصوت مرتفع عبر الهاتف المحمول وسط القاعة؛ الأمر الذي أعاق جمال وحال دون إسماع صوته إلى بقية الحاضرين. بعد قليل، عاد الهدوء، واستأنف جمال عرضه؛ غير أنه سرعان ما عاد المشاغبون إلى التشابك والفوضى من جديد.
غضب جمال وقرر النزول من فوق الخشبة والاتجاه رأسا نحو الجماعات المشاغبة في عمق القاعة ليقف أمامهم وجها لوجه، ويتفحص وجوههم. وفي خلال ذلك، تعرف على بعضهم: «هذا أنت، إذن... أنت الآخر هنا...أعرف من يحرككم... لكنني لن أجاريكم في ما تريدون، يجب علي أن أقدم عرضي... هنالك أشخاص ينتظرون لأنهم دفعوا ثمن التذكرة...».
لكن، عندما عاد جمال إلى الخشبة، احتدت الفوضى، وتعالت الشتائم هذه المرة في حق أفراد عائلته. الكثير من الفوضويين كان يشتم :» يا ابن الق...»، إلخ.
بدا، إذن، أنه لا يمكن الاستمرار في تقديم العرض بعد أن بدأ تقنيو الصوت والإضاءة، الذين كانوا في عمق القاعة غير بعيد عن مكان المشاغبين، يستعدون لتفكيك أجهزتهم ومغادرة القاعة. فاضطر جمال إلى استسراع نهاية عرضه ليضع حدا لهذه الإهانة التي تعرض لها أمام أفراد عائلته ومدعويه والشخصيات المهمة التي جاءت لتشاهد انطلاقة جولته الفنية.
عاد جمال إلى بيته مجروحا، مهانا بينما أخذ أفراد أسرته يتدبرون عبارات المواساة والتضامن من قبيل أن النجاح يخلق الأعداء والغيورين، وأن هنالك من أجيال الهجرة من يريد أن يبقى حبيس الأحياء البئيسة بعيدا عن الاندماج والطموح...
بين جمال ومدينة طراب شيء ما تكسر إلى الأبد. لن تصبح الأشياء كما كانت بعد الذي جرى. أبدا، لم يتصور أن النجاح سيجر عليه الغيرة العنيفة. لكن منذ أن انتقل جمال، رفقة صديقته البرتغالية باولا، إلى حي راق انفصل تماما عن الحياة اليومية في مدينة طراب. فعندما ينفصل العربي عن أصله الشعبي البئيس وينتقل إلى مجال آخر ليس من ثوبه يكون قد كشف عن تميزه الاجتماعي أمام الجميع، وخان وعده بأن لن يفارق أبدا حيه وواقعه الأصليين. وهو وعد يقطعه أبناء المهاجرين على أنفسهم من حيث لا يدرون.
بعد مرور شهر عن هذا الحادث، قرر المجلس البلدي أن يعين جمال الدبوز «مواطنا شرفيا للمدينة»، إلا أن الأخير تخلف عن الحضور إلى مقر البلدية لاستلام الميدالية الذهبية التي كانت تنتظره. وربما نتيجة لهذا «الاختبار» غابت صورة جمال الدبوز عن بهو قاعة العروض «لاميريز» بينما علقت على جدارها صور لستة وسبعين نجما قدموا عروضا فنية بها من قبيل فضيل، وإيلي سمون، ورونو، وجولييت غريكو، وجون لوي ترينتينيان...

جمال يتساءل عن مصير الأموال التي كان يساهم بها في دعم الأعمال الإنسانية بالمغرب


رغم تعلقه الكبير بالمسرح الارتجالي، ظل جمال الدبوز يتطلع للتمثيل السينمائي، لكنه لم يكن ليقبل بأي عمل بعدما أصبح نجما معروفا في عالم الفرجة الفنية. وعندما عرض عليه ألان شباط، الوجه السينمائي المعروف، دورا في فيلم «Astérix et Obélix, Mission Cléopâtre» لم يتردد في القبول، إلا أنه اعتقد في البداية أنه سيُمنح دورا رئيسيا قبل أن يفسر له أفراد فريق الإنتاج، بما يتطلبه الموقف من لباقة، أن الدور الرئيسي، أستريكس، ممنوح لغيره اعتبارا لأن الفيلم الجديد ما هو إلا جزءا ثانيا لفيلم «Astérix et Obélix contre César»، الذي أخرجه كلود زيدي سنة 1999 والذي لا يمكن أن يزاح منه الممثل الكبير جيرار دوبارديو وكريستيان كلافيي.
عُرض، إذن، على جمال أن يتقمص شخصية نوميروبيس، المهندس المعماري الذي أنجز قصرا رائعا للقيصر بطلب من كليوباترا، وتطلب الأمر مراجعة الدور، الذي كان ثالثا في جنيريك الفيلم، على مقاس جمال الدبوز. لكن جمال راهن على أشياء أخرى يتضمنها العقد مع المنتج.
جاء في العقد أنه «تم الاتفاق بين شركة رين برودوكسيون، الممثلة من طرف رئيسها المدير العام كلود بيري، وجمال الدبوز، على أجر خام قدره 000 350 3 فرنك يؤدى على عدة دفعات: 000 335 فرنك عند التوقيع، 000 680 2 موزعة على نهاية كل أسبوع من التصوير، 000 335 فرنك في نهاية العمل».
فضلا عن هذا الأجر، ينص العقد على أن يتقاضى جمال مبلغا مقدما عن حقوق المؤلف قدره 000 220 2 فرنك من المداخيل الصافية للمنتج، ويوزع المبلغ المالي على خمس دفعات، أي 000 220 فرنك عند توقيع العقد، ثم 000 495 فرنك منذ اليوم الأول من التصوير إلى النهاية.
كما يتضمن العقد بندا آخر يعتبر مهما في عيني جمال، وهو المتعلق بمكافأة الجمهور. ينص العقد على أنه إذا بلغ عدد مشاهدات الفيلم 8 ملايين، يصبح من حق جمال أن يحصل على 000 800 1 فرنك دفعة واحدة، و90 سنتيما عن كل دخول إضافي لمشاهدة الفيلم.
يتميز العقد أيضا ببنود خاصة منها أنه في حال تجاوز التصوير 55 يوما المحددة في العقد، يدفع المنتج للدبوز مبلغ 000 80 فرنك عن كل يوم تأخر تؤدى له يوميا؛ وأن المنتج يتحمل جميع تنقلات الممثل والمبيت في فندق من الدرجة الأولى يختاره الممثل باتفاق مع المنتج. كما يلتزم المنتج بتشغيل الأخ الأصغر لجمال (مومو) كمساعد وسائق خاص خلال فترة التصوير، وبأن يكتب اسم جمال الدبوز، ثالثا (بعد اسمي البطلين الأولين) فوق عنوان الفيلم، سواء في الجنيريك أوفي جميع الملصقات والإعلانات الإشهارية بشكل يضمن بروزه. لكن، لما كانت البطلة الأولى مونيكا بيلوتشي (كليوباترا) معروفة، خاصة في إيطاليا، سيذكر اسم الدبوز رابعا على نفس الخط الذي كتب عليه اسم مونيكا.
وقع جمال الدبوز العقد في 19 يونيو 2000 ليبدأ تصوير المشاهد الأولى الخاصة بالقرصنة في الاستوديوهات البحرية بجزيرة مالطة، قبل أن ينتقل فريق التصوير إلى جنوب المغرب، ليستقر بمدينة ورزازات لمدة 15 أسبوعا.
لم يكن الاقتصاد المحلي ليستوعب كل الضوضاء الجديدة التي أحدثها قدوم فريق التصوير الضخم، الذي كان بمثابة أرمادا حقيقية نادرا ما تشهدها المنطقة. فميزانية الفيلم بلغت 50 مليون أورو، بينما شارك فيه 2000 كومبارس، و1500 يمامة، و72 ممثلا، و41 حصانا، و23 جملا، و19 قطا، و17 ضفدعا، و12 خنزيرا بريا و3حمامات و3 تماسيح، وحمار واحد وحمَل... والعديد من العقارب والأفاعي، التي لم تكن مبرمجة في الكاستينغ بل اقتحمت استوديوهات التصوير لأن المنطقة قاحلة شأنها في ذلك شأن العواصف الرملية والتغير الكبير في درجات الحرارة التي حولت التصوير إلى معاناة حقيقية.
أُعجب جمال بكفاءة العاملين والتقنيين المغاربة الذين أسهموا في هذا العمل الكبير؛ فقد راقه أن يرى «المساعدين الأولين يديرون عمل 000 2 كومبارس بثلاث لغات مختلفة بينما جل المنتجين الأجانب، يقول جمال، يأتون إلى هناك كما لو كانوا مستعمرين، يستحوذون على كل شيء، لا يفوضون أي عمل للمحليين ثم يغادرون المكان مخلفين وراءهم أزبالهم على الرمال».
أدرك جمال خلال هذه التجربة المهنية العالية للمغاربة في تقنيات التصوير السينمائي: «ليس لدينا النعال الجلدية فقط، لدينا، أيضا، أناس مهنيون وكفاءات عالية؛ يحتاجون فقط للبنية التحتية الملائمة»، يعلق جمال.
كان الفنانون يقيمون في منازل حول بحيرة حيث يمكن ممارسة التجيت سكي، بينما كان جمال يملك طائرة خاصة استغلها لاستقدام عائلته إلى مكان التصوير. ففضلا عن أخيه مومو الذي استطاع أن يحصل على دور بائع التذكارات، دعا جمال أخويه كريم ورشيد وأختيه حياة ونوال وأبيه وأمه، وحتى أصدقائه.
بين تصوير المشهد والآخر، كان جمال يستغل فترات التوقف ليجس مقدار شعبيته عند المغاربة بين التقنيين المحليين. وفيما كان يتوقع أن لا يسمع إلا المديح فوجئ الفكاهي ذو الأصل المغربي بملاحظات المغاربة حوله وهم يعاتبونه عن كونه لم يفعل شيئا لمصلحة تطوير السينما المغربية، وبأنه جعل سمعته في خدمة شركة اتصالات المغرب الغنية، وبأنه يكتفي بأن يظهر في الحوارات الصحافية كشخصية تقوم بالأعمال الإنسانية... اندهش جمال لهذه الملاحظات رغم أنه عهد لمديرة أعماله نادية مورين بالإشراف على المنح التي يقدمها لجمعيات الأعمال الخيرية بالمغرب...
لم يكن جمال ليتحمل نظرات المغاربة إليه وهو ينزل من طائرته الخاصة كما لو كان أميرا. لم يرقه أن يشعر أبناء وطنه الأصل بأن جمال خذلهم لاسيما أنه لم يبخل أبدا على أي عمل لمصلحة أبناء أرض أبيه. فطرح السؤال على نفسه: أين ذهبت الأموال التي كان يسهم بها في دعم الأعمال الإنسانية في المغرب؟

جمال يتعرض للتعنيف من قبل الشرطة بعد سوء تفاهم على الطريق


في فاتح يناير 2000 تقرر تنظيم سهرة تحت شعار «رقص- مغرب عربي 2000» بقصر الرياضات بباريس بيرسي حضرها أكثر من 17 ألف متفرج، وكان ضيف الشرف هو جمال الدبوز الذي جاء ليقدم تهانيه للجالية المغاربية بباريس. كان مرفوقا بأخيه كريم ومساعدته نادية مورين وأختها فاطمة.
كان جمال قد ترك سيارته جاكوارXK8 عند أحد المطالين للإصلاح بعد حادثة الاصطدام مع سيارة الشاب صاحب سيارة «رونو 5» وجاء راكبا على متن سيارة مرسيديس رباعية الدفع، طراز ML، مرقمة في ألمانيا. وكان متبوعا بسيارة أخرى كان من بين ركابها حارسه الشخصي بوعلام طلاطة. وقبل منتصف الليل بقليل، غادرت السيارتان الحفل نحو أحد المطاعم. لكن وبمجرد مغادرة موقف السيارات، صادفت السيارتان موكبا لحراس أمن مكلفين بمرافقة شاحنات تنقل أجهزة ثقيلة كانت مسخرة لفك عجلة ضخمة نُصبت في شارع الشانزيليزي بمناسبة الاحتفال بأعياد الميلاد؛ وفي محاولة لتفادي الموكب، وُجدت السيارتان بين سيارات الموكب. في تلك الأثناء، أشار أحد رجال الأمن من راكبي الدراجات النارية لجمال بالابتعاد عن الموكب، إلا أن الأخير رفض الامتثال. انطلاقا من هذه اللحظة، اختلفت الروايات.
رواية الشرطة تقول إن جمال الدبوز لم يتوقف إلا عند إشارة المرور الحمراء الموالية، بعيدا عن المكان الذي أشار إليه فيه الشرطي بالابتعاد وإنه رفض الامتثال لطلب التأكد من الهوية الذي تقدم به الشرطي. وفي خضم ذلك، احتد النقاش توترت الأعصاب فسقط جمال الدبوز على الأرض بعد أن دفعه شرطي معتقدا أنه مهدد. ودائما حسب الشرطة، استشاط جمال غضبا ولوح بيده أمام وجه الشرطي قبل أن يقول: «انتبه إلى ما تفعل، سأقابل شوفينمان (وزير الداخلية الفرنسي) غدا».
أما رواية جمال فكانت على الشكل التالي: «توقفت عند أول إشارة ضوء حمراء. في تلك اللحظة توقف شرطي يركب دراجة نارية على مستوى نافذة السيارة وأخذ يصيح «تحرك، تحرك». خفضت زجاج السيارة، وبينما لم أتبين بدقة ماذا كان يريد، عاد يقول: «ألا تفهم، تحرك، تحرك.» فنبهته إلى أن يخاطبني بقليل من الاحترام اللفظي. ابتعدت بالسيارة إلى يمين الطريق... نظر إلي الشرطي، ثم ركن دراجته أمام سيارتي وفتح باب سيارتي وأخرجني منها بعنف ليدفع بي نحو السيارة. حينها رأيت أخي يسرع نحو الشرطي وهو يقول: «اترك ذراعه، ستؤذيه، إنه معاق...»... أحكم الشرطي قبضته على رأسي وأخذ يضرب به على السيارة؛ لم يعد بإمكاني أن أرى شيئا، بينما صاح الشرطي الثاني في وجه أخي: «أقفل فمك، ابتعد.» ولم أدرك أن أخي كان يتعرض للضرب على يد الشرطي إلا بعد أن سمعت نادية (نادية مورين، مساعدته ووكيلة أعماله) تصرخ: «توقف عن ضربه...». ضربني الشرطي على بطني بعصاه ثم على رأسي... أغمي علي».
لم يستعد جمال وعيه إلا وهو في مستشفى سان أنطوان، المقاطعة الثانية عشرة بباريس، قبل أن يعلم بأن خلافا آخر نشب بين الأمن وحارسه الخاص بوعلام طلاطة، وأن بعض المصورين التقطوا له صورة وهو ملقى على الأرض وأن جميع المحطات الإذاعية تتكلم عما حدث له تلك الليلة، بينما مجموعة من الصحافيين في الإعلام المكتوب كانوا ينتظرون في باب المستشفى. خلال الساعات الموالية، توصلت وكالة الأنباء الفرنسية (أ.ف.ب) بصورة جمال ملقى على الأرض، محاطا بطبيبين يجسان نبض قلبه، وهي الصورة التي بثتها في اليوم الموالي جميع المحطات التلفزيونية قبل أن تنشرها جميع الصحف المكتوبة الباريسية.
في الدار البيضاء، تأثرت نعيمة المشرقي بما حدث لجمال عندما وصلها الخبر؛ فقد كان لمنظره وهو ملقى على الأرض عميق الأثر على نفسيتها لاسيما أنها لم تنفك أبدا عن اعتباره ابنا من أبنائها، فيما واصلت الصحف الأخرى الحديث عن هذا الحدث في صفحاتها المخصصة لأحداث الناس والمجتمع.
غادر جمال في سرية تامة المستشفى ظهيرة يوم الإثنين 3 يناير وهو يضع حول عنقه واقيا طبيا، وسجل شكاية ضد مجهول مصحوبة بشهادة طبية تثبت عجزه لمدة 6 أيام، فطلبت النيابة العامة من المفتشية العامة للمصالح (شرطة الشرطة) إجراء تحقيق في الموضوع. إلا أن قاضي التحقيق جون باتيست بارلوس قضى بعدم قبول الدعوى يوم 15 يونيو 2001.
وفي 4 يناير، نشرت صحيفة «لوباريزيان» خبرا يقول إن جمال سبق له أن أدين، في شهر ماي 1999، بثلاثة أشهر سجنا موقوفة التنفيذ من قبل محكمة فرساي لـ«عدم احترامه الضوء الأحمر، وإهانة شخص يمثل السلطة العمومية ورفض الامتثال لطلب التحقق الاعتيادي من الهوية».
ويوم 6 يناير، وضحت صحيفة «لوفيغارو» سبب امتناع جمال الدبوز عن تقديم أوراق الهوية ليلة الحادث، فكتبت أنه لم يُطلع رجال الأمن على رخصة السياقة لأنها كانت لاغية منذ 20 فبراير 1998 بسبب تخلفه عن الخضوع للزيارات الطبية الإلزامية التي يوجبها التتبع الطبي لذراعه المعاقة. إلا أن شاهدا غير متوقع، بدا أنه لم يكن منحازا لأي طرف، أفاد الشرطة بأنه كان يتجول رفقة كلبه غير بعيد من مكان الحادث، فرأى أن الشخص الذي أخرجه رجال الأمن بعنف من السيارة لم يكن جمال الدبوز، بل يتعلق الأمر بشخص آخر كان في السيارة الخلفية، وأن جمال هو الذي كان سباقا إلى استفزاز رجال الأمن. استأثر هذا الحادث باهتمام البرامج التلفزيونية الحوارية، فدعي جمال إلى العديد من استوديوهات التصوير من قبل مختلف المنشطين ليدلي بروايته عن الحادث، كما دعي خالد القنديلي للحديث عن الخلاف الذي نشأ بينه وبين جمال بسبب الحارس الشخصي لهذا الأخير ووكيلة أعماله نادية مورين قبل أن يتدخل جلالة الملك محمد السادس ليطلب منه إنهاء هذا الموضوع حتى لا يسيء إلى صورة المغاربة بالخارج خاصة أن الإعلام اهتم به كثيرا.

مشادة كلامية بين جمال وشاب صدم سيارته «الجاكوار» تنتهي بمخفر الشرطة


أصبح جمال، الآن، يتمتع بشعبية كبيرة خاصة بين المهنيين، وبدأت تتقاطر عليه عروض العمل، خاصة عروض المشاركة في أفلام سينمائية قصيرة وطويلة وتصوير الأفلام الإشهارية وبرامج التلفزيون، إلخ. لكن جمال كان مشغولا بهم آخر ظل يسكنه من البداية. فقد بات يحن إلى معانقة الخشبة: «السلسلات التلفزيونية والسينما لا يمنحانني نفس المشاعر والأحاسيس التي أشعر بها في علاقتي المباشرة مع الجمهور، يحكي جمال. لا يمكنك أن تغش أمام الجمهور، فإما أن تكون موفقا، فتنجح وإما أن تفشل». كان جمال يفضل الحضور على الخشبة أكثر من أي شيء آخر.
أما الرجل الذي سيعيد جمال إلى الخشبة من الباب الواسع فقد سبق أن التقاه في ربيع السنة الماضية بالدار البيضاء بمناسبة تنظيم مهرجان للفكاهة بإشراف من والد الفكاهي جاد المالح. يتعلق الأمر بالمنتج المعروف جيمي ليفي، المزداد بمدينة طنجة، والذي سبق له أن امتهن تدريس الفلسفة قبل أن يلتحق بعالم الإنتاج الفني ويكون سببا مباشرا في بروز عدد من الوجوه المعروفة في المشهد الفكاهي الفرنسي من قبيل باتريك تيمسيت، وجون ماري بيغار، وبيير بالماد وإيلي وديودوني وداني بون وجاد المالح وإريك ورمزي وآخرين... يقول عن جمال: «أول مرة رأيت فيها هذا الفتى النحيل شعرت بأنه يملك موهبة فطرية تميزه عن الآخرين. إنه الأسلوب».
تعرف الإثنان على بعضهما البعض واتفقا على إنجاز عمل مشترك. كان ضروريا أن يلجأ جمال إلى صديقه قادر لكتابة نص العمل الفكاهي المنتظر عرضه في قاعة «لاسيغال» المعروفة. كان عليهما العمل بسرعة نظرا إلى اقتراب موعد العرض. ورغم الضغط الكبير، استطاع الإثنان أن ينجزا عملا نال استحسان المتفرجين في أول عرض له رغم أن بدايته تأخرت بحوالي ساعتين ونصف.
شهد هذا العمل الفكاهي المتميز نجاحا كبيرا قال عنه جيمي ليفي: «لقد تجاوزنا الظاهرة الفنية؛ ما أسمعه في القاعة، ليس جمهورا اعترف للتو بموهبة وكفاءة كبيرة بل متفرجين جاؤوا يشاهدون شخصا يرون فيه ذواتهم. إنها ظاهرة سوسيولوجية».
جمال بدوره، ومحيطه العائلي، اندهشا أمام الإقبال الجماهيري الكبير الذي حظي به هذا العرض علما بأن محيطه العائلي هذا حاول أن يقنعه بالعدول عن العودة مجددا إلى الخشبة بعد أن حقق نوعا من الاستقرار المادي المريح والاستمرار في العمل السينمائي أو التلفزيوني.
«الجميع كان يعتقد بأنني ارتبطت إلى الأبد بالسينما والتلفزيون، يحكي جمال... لكنني ظللت دائما على موقفي الأول بينما كان التلفزيون والسينما وسيلة لجلب أكبر قدر من الجمهور لهذا العمل الذي وضعت فيه كل ما عشته سابقا...»
وفي خضم هذا النجاح الكبير، فكر جمال في شباب الضواحي الذين يوجد من بينهم عدد كبير من المواهب والكفاءات في شتى المجالات؛ هؤلاء يحتاجون إلى الاعتراف والدعم لكي يتجاوزوا الوضع البئيس الذي يعيشون فيه.
فكر جمال في تخصيص مداخيل حفل خاص يسهم فيه فنانون آخرون لتأسيس مقر جديد لمسرح «دكليك تياتر» في مدينة طراب. تطوع للمشاركة في الحفل عدد مهم من الوجوه الفنية منها جاد المالح، إريك ورمزي، ديودوني، بيير بالماد... كان ذلك في فاتح نونبر 1999.
حوالي 1200 شخص حضروا الحفل بعد أن أدوا ثمن التذكرة الذي بلغ 250 فرنكا، كما ساهم الكثير منهم بعطايا مالية كان أبرزها شيك بقيمة 5000 فرنك تبرع به جون بيير بكري، انضاف إلى المبلغ الإجمالي الذي استفاد منه المسرح، والذي بلغ 180 ألف فرنك.
هذا التجاوب الجماهيري الكبير مع الفكرة جعل جمال يقرر الانطلاق في جولة فنية من مدينته العزيزة عليه، مدينة طراب.
تمنى جمال لو يتوقف الزمن عند هذه اللحظة. كان يقول أن ليس هنالك لحظة أجمل من هذه... لكن الزمن استمر غير مبال بأمنيته، بل جاء حاملا له بشرى اختياره من قبل كنال بلوس ليشرف على إعداد برنامج اسمه «جمال شو» بمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة 2000. قرر جمال، مرة أخرى، أن يجمع حوله كل الذين يثق في كفاءاتهم، فدعا إليه كلا من ألان شاباط، وديودوني، وإلي سمون، وجاد المالح، وعمر وفريد، وبرونو سولو، ولي روبان دي بوا، ومجموعة زبدة، وأوفيلي وينتر. تم تسجيل البرنامج أياما قليلة قبل حلول رأس السنة ليبث مرات عديدة في أوقات الذروة على كنال بلوس.
كانت فرحة كبيرة تلك التي غمرت جمال وهو يستقبل السنة الميلادية الجديدة. إلا أنه سرعان ما أفسدها عليه شاب في الثالثة والعشرين. كانت الساعة تشير إلى حوالي الثانية صباحا، وبينما كان جمال متوقفا بسيارته «جاغوار XK8» في إشارة الضوء الأحمر انهمك في حديث مع ركاب سيارة مجاورة قبل أن يشتعل الضوء الأخضر ويتأخر في الانطلاق؛ وهو الأمر الذي أغضب الشاب الذي كان يقف وراءه بسيارته «رونو 5»، فاضطر إلى تجاوز سيارة جمال على اليمين؛ إلا أنه اصطدم بها ولاذ بالفرار قبل أن تنطلق مطاردة انتهت بتوقف الشاب ومشادة كلامية بينه وبين جمال وأصدقائه، ليتم تسجيل شكاية، مدعمة بشهادة طبية تثبت عجزا لمدة 7 أيام، ضد جمال بتهمة «العنف الإرادي».

جمال لم يصدق نفسه عندما حصل على 200 ألف فرنك كأجر عن كل حلقة يمثلها لصالح «كنال بلوس»


يمتاز جمال بالقدرة على الانتقال من عالم إلى عالم آخر بسهولة، كما هو الانتقال من الضحك إلى البكاء في السينما. مواهبه الفنية جعلته يحظى باهتمام كبير عند مرتادي العلب الليلية من كبار القوم، كما بين تلاميذ الثانويات حد أن هؤلاء صاروا يقلدونه في ملبسه وفي وضع اليد في الجيب وفي لغته السريعة و»ابتكاراته» اللسانية...
لقد تطور التعلق بجمال إلى درجة أن الأمر أصبح ظاهرة بين المراهقين والشبان خاصة بعد بدء بث سيتكوم H على قناة «كنال». ويحيل حرف «H» على كلمتي «Humour» و«Hôpital» ككلمتين أساسيتين تنبني عليهما السلسلة كلها، التي تضم إلى جانب جمال كلا من الكوميدي إريك جودور ورمزي بيدية والبرتغالي جون لوك بيدو وكاثرين بنكيكي وصوفي مونيكو...
راهنت «كنال بلوس» كثيرا على هذه السلسلة، كما أن الممثلين فيها منحت لهم رواتب هامة، خصص منها لجمال الدبوز 200 ألف فرنك للحلقة الواحدة. كان راتبا كبيرا لم يصدقه جمال في البداية. انطباع جمال حول هذا الراتب غير المألوف علق عليه المنتج جون بيير رامساي بالقول:» عندما أخبرته بقيمة الراتب الذي سيتقاضاه اعتقد أنني أخطأت في الرقم وأنني أضفت صفرا إليه.»
كان الممثلون في هذه السلسلة يرتجلون الكثير من حركاتهم وأقوالهم. كان التصوير يتحول، أحيانا، إلى ما يشبه الفوضى، وكان جمال، طبعا، بطلا في هذا الارتجال حد أن الاستوديو لم يكن يهدأ إلا عندما يهدأ هو. تقول إحدى الممثلات- الكومبارس: «كان يحدث أن يغير (جمال) فقرات بحالها من السيناريو الأصلي، وهو ما يجعل كتاب السيناريو ينتفضون غضبا...». أما النصوص الفكاهية فكانت تحضر على عجل، بل كان منها ما يحرر في اليوم السابق للتصوير أو صباح يوم التصوير على يد كتاب السيناريو الذين تكونوا في مدرسة «كنال». لكن إذا كان السيناريو كذلك، فإن الموهبة الفنية لجمال كانت ترفع من قيمة النصوص وتحسنها؛ بل إن المخرج إدوار مولينارو، قيدوم السينما الفكاهية الفرنسية، قال عنه:» إنه يجسد الطبيعة الاستثنائية جمال الدبوز هذا. لم أصادف مثله الكثير خلال 40 سنة من المهنة. فكما هو الشأن عند لوي دو فونيس أو ميشيل سيرو، تنبني فكاهته على حقيقة داخلية. وحتى عندما يؤدي المشاهد الأكثر غرابة، فإنك ترى الحقيقة في عمق عينيه. إنها خاصية الفكاهيين الكبار.»
صحيح أن قواعد السيتكوم الأمريكي لم تحترم بالشكل المطلوب، إلا أن الأداء الذي قدمه جمال تجاوز فيه حدود الحرية الممكنة، والتي لم يكن يعتقد أنها ممكنة في العمل التلفزيوني. «كنت أريد أن أذهب إلى أبعد مما كنا نقدم، يقول جمال. طلب مني أن أكتب حلقة، إلا أنني لا أعتقد أن المجلس الأعلى للسمعي البصري كان سيقبلها كنت أريد الحديث عن أشياء يعرفها جميع الناس...(...) في جميع الأحوال، يجب أن أنضبط في عملي أكثر فأكثر لأن شخصيتي الحالية قد تصبح ظاهرة عابرة، وهو ما يشكل خطرا حقيقيا. وإذا توقفت الأمور عند هذا الحد، فلن يصبح بإمكاني إلا أن أعود إلى حضن أمي أو أن أحترف السطو على الأبناك...».
استمر الدور الذي أداه جمال في ذلك السيتكوم لمدة 71 حلقة من 22 دقيقة. وانتهى به الأمر إلى كره نفسه وما يقدمه من عمل.
فكر في التخلي عن هذا العمل قبل أن يتراجع لأنه لا يمكنه أن يتخلى عن التزام عقده مع المسؤولين. كان يطمح إلى أشياء أخرى أكثر من مجرد التمثيل التلفزيوني. كان يريد أن يستعيد حياة المسرح والارتجال الفكاهي. لكنه، قبل في الأخير أن يؤدي دوره في موسم آخر من نفس السيتكوم مقابل عقد مال خيالي تم الاتفاق عليه في شهر دجنبر 1999، بعد أن تفاوضت في شأنه نادية مورين مع جون بيير رامساي ليفي والمسؤولين الماليين في القناة. فقد اشترطت عليهم دفع ضعف ما كان يتقاضاه الدبوز في الموسم السابق. رفض المسؤولون في البداية واقترحوا 4 ملايين فرنك. تحكي نادية مورين حكاية التفاوض هاته فتقول:» كان جمال مستعدا للتخلي عن العمل لأنه كان يفكر في مشروع فيلم سينمائي (Astérix et Obélix، Mission Cléopâtre)، إلا أنني قلت له بأنه مازال لم يؤمن نفسه ماديا حتى يمكنه أن يتخلى عن هذا السيتكوم. ذهب رامساي ليفي وعاد للتشاور مع شركائه في «كنال بلوس»، الذين كانوا متشبثين بجمال إلى حد أنهم قبلوا بطلبي القاضي بدفع 6 ملايين فرنك، مدفوعة على جزأين، بينما حددت عمولتي في 720 ألف فرنك. بعد مدة، علمت بأن رامساي ليفي نصح جمال بأن ينفصل عني ويختار عميلا آخر...».
انسحب جمال من السلسلة بعد أن غنم منها الكثير من الأموال، لكن أهم ما غنمه هو تعرفه على شخصية مهمة، كانت من الشخصيات التي أسهمت في كتابة سيناريو السلسلة، ويتعلق الأمر بعبد القادر عون، المعروف اختصارا بـ «قادر عون»، الذي التحق منذ سنة 1997 بشركة كنال بلوس، وهو من أصول جزائرية.

جمال يتحول إلى ظاهرة داخل قناة «كنال بلوس» بفضل قدرته على الارتجال


بعد الصدى الذي تركته حفلات الـ «وان مان شو» بين الجمهور الواسع ووسائل الإعلام، كبر طموح جمال الدبوز وصار يتطلع إلى ولوج الدوائر العليا الحكر على شخصيات من نوع خاص.
طموح الدبوز الآن هو أن يدخل إلى تلفزيون كنال بلوس والإطلالة على المشاهدين من نافذة إعلامية كبيرة مثل هذه. لكن هنالك حاجز يحول دون هذا الطموح المستحق. فثمة شك ينتاب مدير البرامج بالقناة، ألان دو غريف، الذي ما زال يتساءل حول شخصية الدبوز للتأكد من كفاءته الحقيقية. تطلب الأمر من جاك ماساديان أن يستعمل علاقاته الخاصة لإقناع مدير البرنامج بأن جمال يستحق المرور في كنال بلوس. فبادر إلى الاتصال بصديقه برنار زكري، الصحافي السابق في صحيفة «أكتييل» قبل أن يلتحق بالإنتاج التلفزيوني بكنال بلوس، حيث كلف بإطلاق التصور التلفزيوني الجديد لبرنامج «Nulle part Ailleurs»، الذي يحتاج إلى نفس جديد. آمن زكري بأن لمسة جمال هي التي يحتاجها البرنامج، فبدأ العمل بمحاولة إقناع مدير البرامج بالفكرة مستعينا بمعارفه داخل القناة، فنجح في ذلك.
استطاع جمال، إذن، أن يدخل إلى «كنال بلوس» من بابها الواسع، بل إنه مُنح ركنا تلفزيونيا خاصا به يسمى «سينما جمال».
بمجرد أن التحق بالقناة، حفظ جمال الطريقة التي تسير عليها الأمور من اجل استغلال فرصة الظهور في التلفزيون ضمن برامج قناة كبيرة مثل «كنال بلوس». بدا كما لو كان يريد أن يحرق المراحل بسرعة من أجل أن يحقق أهدافه، خاصة المادية. فقد كان يتصور نفسه يقود سيارة فيراري ويطوف بها بين أزقة الأحياء الشعبية المزدحمة بأبناء الطبقة الفقيرة.
داخل «كنال بلوس» تعرف جمال على الصحافي كيوم دوران، الذي يملك سيارة فيراري. وذات مرة جاءه جمال ليتحدث معه عنها، فأدرك دوران أن الفكاهي الناشئ يحلم، كما حلم هو كذلك في طفولته، بأن يملك سيارة من نفس الطراز. وذات صباح بادر دوران إلى منح سيارته لجمال يوما واحدا ليشفي بعض الغليل منها. إلا أن الحكاية كادت تنتهي نهاية سيئة. فقد أوقف الدرك جمال بعدما تضررت السيارة في إحدى المطبات نتيجة السرعة الفائقة التي كان يقود بها السيارة.
يتذكر كيوم دوران كيف أن الدبوز لم يفكر، أبدا، في الاعتذار عما قام به تجاه صديق هو الذي بادر إلى تسليمه سيارة فيراري. «(...) كان يدرك جيدا أنه ارتكب حماقة لا يريد أن يتكلم عنها، رغم أنه ليس من النوع الذي يمكنه أن يخجل من فعلته. بل إنه لم يكترث أبدا للمشاكل التي ترتبت عن ذلك مع شركة التأمين، يقول كيوم دوران. لقد حرمت طويلا من سيارتي؛ وهو ما جعل الجميع في «كنال بلوس» يسخرون مني. لكن بالنسبة لي، لم يكن الأمر مأساة وطنية، المهم هو أن جمال لم يصب بمكروه.»
سرعان ما أثبت جمال وجوده في «كنال بلوس» وفرض ذاته رغم الحصة الزمنية القصيرة التي منحت له، بل أصبح هو ظاهرة القناة في ظرف وجيز بشهادة برنار زكري، الذي ثمن قدرته على الانسجام مع البث المباشر ووضعه في مصاف كبار المرتجلين التلفزيونيين من أمثل كوليش وشبات...
لكن صديقه وشريكه جاك ماساديان بدأ يخشى على جمال من السرعة التي بات يسير بها في عالم التلفزيون، ومن خطر أن يصبح الفكاهي الموهوب مجرد منتوج تلفزيوني تسويقي.
رغم ذلك، ظل جمال يبحث عن الأضواء، مستغلا مهرجان كان، وراح ينظم السهرات على مقاسه مع أصدقاء الأحياء السكنية الشعبية دون أن يكترث بأي شيء. وفي خلال ذلك، تعرف على نادية مورين، ذات الأصول المغربية هي الأخرى، والتي ذاقت حياة البؤس والحرمان واليتم بعد أن توفي والدها في حادثة سير وهو في سن الحادية والثلاثين. وسرعان ما تطورت العلاقة بينهما إلى أن أصبح نوع من الحميمية يربط بين الإثنين وأسرة الدبوز بأكملها. تتميز نادية بحس تجاري عال راكمته خلال تجربة طويلة في المجال، بينما كان جمال مايزال يجهل طرق تدبير أمواله لاسيما ما تعلق بالضرائب على المداخيل. اقترحت عليه، إذن، أن يستثمر أمواله في شراء شقق جاهزة للاستفادة من الامتيازات الممنوحة من قبل الدولة في هذا الإطار. فسعى خارج باريس ليجد الشقق المناسبة قبل أن يستقر على ضاحية بعيدة ويشتري أربع شقق في عمارة راقية تبلغ مساحاتها: 177، و100، و80، و50 مترا مربعا. وكانت نادية هي من فاوضت السعر الإجمالي للشقق الذي كان سعرا مناسبا جدا بلغ 170 ألف فرنك، تسلمت عنه نادية 10 في المائة.
أرادت نادية مورين أن تبين لجمال ومن معه أنها قادرة على تنظيم حفل كبير تحت رعاية العائلة الملكية بالمغرب لأهداف إنسانية. واستطاعت أن تضمن مشاركة الشاب مامي والشاب خالد وفنانين آخرين إلى جانب جمال الذي سيكون النجم. قامت نادية بجميع الاتصالات الضرورية فيما تكلف خالد القنديلي بتوفير اللوجستيك الضروري في المغرب، قبل أن يسافر جمال إلى الرباط ليستقر رفقة باولا صديقته ونادية وإخوانه في فيلا راقية على المحيط في انتظار يوم الحفل. لكن، القدر المحتوم أراد أن لا تكتمل الأمسية كما كان مقررا لها. فقد توفي الملك الحسن الثاني في 23 يوليوز من ذلك العام، 1999.

الدبوز يبدأ مساره السينمائي بدور منحرف يتخبط بين العنف والرقة


حان الوقت لكي يفترق التلميذ والأستاذ بعد أن تعددت التزامات هذا الأخير. رحل بابي عن الطفل الذي احتضنه طويلا ليتفرغ لهموم أخرى، أغلبها عائلي، فصار على الطفل الصغير أن يحلق بعيدا عن العش. وفي تحليقه هذا، لابد له من أن يتعرف على أشخاص جدد، لاسيما أنه أصبح، الآن، شخصية معروفة في مجال الفكاهة والارتجال الفرجوي.
تعرف جمال على جاك ماساديان، المنتج المعروف في الوسط الفني، بعد أن اقتنع الأخير بمواهبه التي برهن عليها في عمله الرسمي الأول «C’est tout neuf، ça sort de l’œuf» وبعد أن أصبح جمال محط اهتمام من جهات كثيرة. فقد أضحى مطلوبا للمشاركة في الكثير من المناسبات الفنية، كما بدأت تتقاطر عليه عروض الإعلانات الإشهارية والأفلام القصيرة والتنشيط التلفزيوني بعد أن انطلق في أول تجربة إذاعية كانت ناجحة.
جاك ماساديان معروف في الوسط الإعلامي وإن كانت مهنته الأولى هي عالم الطباعة والنشر.
قرر جمال، بعد نصيحة من صديقه الجديد، أن يؤسس لنفسه شركة خاصة سماها «كيسمان». وقد جعل شركاءه فيها فضلا عن ماساديان، أخاه محمد الدبوز وموسى، الأخ الأصغر لخاله. وحددت أهداف الشركة، التي توسع نشاطها إلى خارج فرنسا كذلك، في وضع تصورات لبرامج إذاعية وتلفزيونية وإنتاج الحفلات الفرجوية وبثها على القنوات التلفزيونية وإنتاج الأفلام الدعائية والصناعية والسينمائية... وفي خلال ذلك علم جمال بأن سينمائيا شابا من أصل تونسي يسمى لوران بوحنيك بصدد إنجاز فيلم طويل عن عالم البؤس والسجن؛ وهو العالم الذي يعرفه المخرج خير معرفة لأنه عاش، هو الآخر، في باربيس وصُدم ذات مرة وهو صبي بمقتل عاهرة على عتبة العمارة التي كان يقطن فيها. الفيلم هو اقتباس لمسرحية بعنوان «زونزون» (الزنزانة في المصطلح السجني المتداول) من تأليف مارك أندريوني وباتريك لاسان، وتحكي تفاصيل ذلك العالم المغلق من خلال المصائر المتقاطعة لثلاث شخصيات تتعارض فيما بينها على مستوى الأصل الاجتماعي وسبب الإدانة وقساوة المدة الحبسية. أما جمال فسيلعب فيها دور المنحرف، قادر، الذي يتخبط بين العنف المبالغ فيه والرقة العاطفية.
منذ التجربة السينمائية الأولى، صار جمال يحلم بتجربة أخرى ترفعه إلى مقام الكبار، لذلك لم يمانع في إجراء الكاستينغ على يد مخرج مبتدئ بدأ يتلمس تجربته الأولى الحقيقية بعد كثير من التجارب البسيطة.
لم يكن من مشكل في الكاستينغ بالنسبة للشخصيتين الأوليين. يتعلق الأمر بالممثلين غايل موريل وباسكال غريغوري، إلا أن الشخصية الثالثة هي التي طرحت المشكل. فالمخرج كان يبحث عن ممثل من أصول مغاربية قبل أن تقترح عليه صديقته، الممثلة جولي غايت، الشاب جمال الدبوز، الذي كان حينها يقدم عروضه في إحدى القاعات الباريسية ويقدم، في الوقت نفسه، زاوية يومية في راديو نوفا. اقتنع المخرج بكفاءة جمال في التمثيل، إلا أنه كان عليه أن يحسم في أمر التمويل. فقد اشترطت قناة فرانس 2 على المخرج أن يكون الممثل نجما معروفا للمشاركة في التمويل، إلا أن المخرج فضل الاكتفاء بتمويل كنال بلوس على أن يضحي بجمال، مع التقشف في المصاريف أثناء مرحلة التصوير.
انطلق التصوير، وتم الحسم في نصف المشاهد دون إعادة تصويرها؛ وهو الأمر الذي كان يتعجب له جمال ويسائل فيه المخرج. لكنه كان حاضر البديهة أثناء التصوير، مستحضرا في كل لقطة ومشهد عالمه الخاص، الذي كان قريبا من السجن وشخوصه.
وعندما كان يعود إلى البيت، في المساء، عند نهاية التصوير، كان جمال يشعر بأنه قريب من رفاقه القدامى، الذين كان يشاركهم مغامراتهم. لكن خلال فترة التصوير كلها، كان جمال يركز على خلق مسافة بين تلك الذكريات والدور المنوط به حتى ينسجم تماما مع شروط الأداء الرفيع.
كان هذا الفيلم مناسبة وقع فيها جمال أول عقد مهني سينمائي. فرحته الكبيرة أنسته التركيز على شروط العقد رغم الترددات التي عبر عنها صديقه جاك ماساديان.
نص العقد على أن يتقاضى 40 ألفا فرنك كأجر عام خام يؤدى على 4 دفعات: 5000 عند التوقيع، يوم 16 نونبر 1997، 5000 يوم 30 نونبر، 15 ألفا يوم 15 دجنبر، ثم 15 ألف يوم 30 دجنبر، بينما كان على جاك ماساديان أن يكتفي بمبلغ 4 آلاف فرنك خام مؤداة، كذلك، على 4 دفعات.
غير أن ثمة نقطة كان يجد فيها جمال عزاءه. يتعلق الأمر بأن العقد ينص على أن يتقاضى منحة قدرها 15 سنتيما عن كل بطاقة دخول لمشاهدة الفيلم بعد تسجيل 200 ألف دخول. وبما أن الفيلم شاهده 216594 متفرجا، فقد كان من حق الدبوز أن يستفيد من 2489.10 فرنك إضافية.

عمدة مدينة طراب يتوسط لحضور جمال ببرنامج الإعلامي الشهير ميشيل دروكير


في باريس، بثت قناة «فرنسا2» في نهاية نشرتها الإخبارية للثامنة مساء يوم 13 نونبر 1995 في زاوية «coup de cœur» حصة من دقيقتين عن الحفل الذي يقدمه جمال في قاعة «موفيز». وبعد أشهر قليلة، جاء دوره ليبدأ خطواته الأولى في استوديو تلفزيوني بباريس بعد أن التأمت العديد من الشروط الإيجابية، التي أسهم فيها عمدة مدينة طراب، برنار هوغو.
كان حينها ابنه جيل، مهندس صوت، يشتغل في برنامج «استوديو غابرييل»، الذي يقدمه ميشيل دروكير، ويبث من الاثنين إلى الجمعة قبل نشرة الثامنة ليلا على قناة «فرانس2».
اعتبر برنار هوغو، الذي حضر أول عرض «وان مان شو»، أنه يمكنه أن يقدم بعض الدعم للفكاهي الصاعد من خلال ابنه، إدراكا منه أن هذه الموهبة باتت تشكل مفخرة لمدينته.
عمدة المدينة لا يعرف عائلة الدبوز معرفة شخصية، إلا أنه سبق أن التقى فاطمة الدبوز في إحدى المظاهرات المنددة بغلاء أثمنة الكراء ومن أجل الحق في الشغل أمام عمالة فرساي؛ إذ أنه حملها معه، رفقة أمهات أخريات، في سيارته.
لم يتردد العمدة في مهاتفة ابنه جيل، الذي يعرف أن له علاقات متميزة مع ميشيل دروكير، على أمل أن يتدخل ليمنح فرصة البروز للتلميذ النموذجي عند الأستاذ بابي. في ذلك الوقت كانت ناتالي أندري، التي وظفها ميشيل دروكير كمبرمجة لبرنامجه «استوديو غابرييل»، تشتغل على الحلقة التي ستبث يوم 12 مارس 1996. فقد كان عملها يقضي بالاتصال بخمسة مدعوين في كل حلقة. كان الضيف الرئيس في حلقة ذلك المساء هو الممثل خوسي غارسيا، الذي يقتسم مع فابريس لوتشيني بطـــــــــــــــولة فيلم «Beaumarchais، l’Insolent». ولم يبق إلا إيجاد الموهبة الشابة التي تستقبل كل يوم لمدة خمس دقائق قبل المرور إلى الفقرة النهائية التي ينشطها الثنائي لوران غيرا وفيرجيني لوموان. كان يوجد على أجندة ناتالي أندري اسم «شاب صغير مثير للضحك» اكتشفته في ضواحي مدينة إيفري عندما كان يقدم حفله الأول الرسمي قبل شهرين. ومنذ أسبوعين مضت ظلت دائما تحاول إقناع رئيسها ميشيل دروكير بمنح هذا الفكاهي الشاب فرصته، إلا أن ميشيل ظل دائما يرفض ويقول « ناتالي، من هو جمال هذا الذي تتحدثين عنه؟.» تقول ناتالي: «اعطه فرصة لخمس دقائق فقط، إنه رائع.» ظل الوضع على هذا الشكل إلى أن تصادف أن أوصى جيل هوغو، مهندس الصوت، بالفكاهي الشاب والتقى رأيه، إذن، مع رأي ناتالي أندري حول نفس الشخص: جمال الدبوز.
وفي يوم 12 مارس 1996، أسرع جمال الدبوز، كالمجنون، وكما الطفل الصغير المرعوب، إلى «استوديو غابرييل». لكن، عندما أعطيت إشارة الدخول إلى الأستوديو، واجهته مشكلة لم تكن متوقعة. فقد كان على جمال أن يقتعد كرسيا عاليا لا يناسب قامته القصيرة. إلا أنه سرعان ما تجاوز هذه الصعوبة بأن بادر، بتلقائية، بمخاطبة دروكير قائلا: «من فضلك، سيد دروكير، هل يمكنني أن أتصرف...؟». ودون أن ينتظر الجواب، نسي الكرسي العالي، واتجه نحو دروكير وأحاطه بذراعه وهو يشير إلى الكاميرا بالتركيز عليه، وعندما ركزت عليه عدسة الكاميرا قال: «أمي، أيها الأصدقاء، هذا أنا، أنا هنا، عند ميشيل دروكير.» لاشيء بدا قادرا على توقيفه بعد أن انطلق في عفويته وتلقائيته وخفة حركته التي لم يعتدها المشاهدون من قبل في برنامج دروكير، الذي بدا متأثرا بسحر هذا الفتى. لقد انطلق جمال في كلام مسترسل لا ينقطع كما لو كان رشاشا أوتوماتيكيا أو ديناميت منفجر. يتذكر ميشيل دروكير تلك اللحظات قائلا: «كانت له نظرة ثاقبة وحركية كبيرة (...) كان يشعر ببعض الخوف لوجوده في الاستوديو، لكن في الوقت نفسه كنا نشعر بأنه يملك الكثير من المهنية والاحترافية. كان نشيطا بشكل كبير، بل إن نشاطه جعله يحفظ كل ما يراه حوله بسرعة بديهة كبيرة. في لحظة واحدة، صور الديكور كله في ذاكرته، والهندام الذي كنت أرتديه وقال في نفسه: أنا عند ميشيل دروكير الآن، هذا أمر سيسر أمي ويطمئنها، أنا أسير على طريق النجاح، لقد بدأت أصعد درجات المصعد، أنا الآن في الدرجة الأولى. لقد كنا في ذروة المشاهدة، وفي بث مباشر، قبيل الساعة الثامنة مساء.»
وكما جرت العادة كل مساء، طاف ميشيل دروكير على ضيوفه في غرف التحضير قبل بدء البث بقليل. وعندما وصل إلى غرفة جمال انتابه شعور غريب يتذكره المنشط الفرنسي في قوله: «ذكرني وجهه بالفترة التي كنت فيها مشرفا على الأطفال المنحرفين في مدينة فيندي. كان يحيط بي عدد من أمثال جمال، جلهم ينحدرون من بلدان شمال إفريقيا.(...) أنا بدوري كنت مخاصما أفراد أسرتي، كما أنني غادرت المدرسة في السابعة عشرة. تعاطفت، مبكرا، مع هؤلاء الصبية القادمين من لا شيء والذين يطمحون إلى أن يصنعوا شيئا بوسائلهم الخاصة البسيطة. لهم خيار واحد بين أن ينجحوا على الخشبة أو أن يحترفوا كرة القدم أو الملاكمة أوالسجن. ومباشرة بعد وصولي إلى التلفزيون، كصحافي رياضي، بدأت تتقاطر علي الرسائل من مختلف السجون في المناطق الفرنسية؛ رسائل كتبها أولئك الشباب الذين كنت أشرف عليهم في زمن ولى. لقد طبعتني تلك التجربة إلى الأبد. ومنذ ذلك الحين، صار لي اتصال منتظم مع الوسط السجني، كما أنني أزور السجون، بين الحين والآخر، لمساعدة الذين يكاتبونني.»

سيدة فرنسية تبادر إلى منح جمال 500 فرنك جزاءً له على نجاح أول عرض يقدمه


التاريخ: 29 أبريل 1995؛ الساعة: 9 ليلا. المكان: قاعة جون باتيست كليمون، التي كانت تشرف على الملء التام. 400 متفرج حضروا الحفل، بينهم من أدى ثمن التذكرة كاملا، أي 40 فرنكا؛ ومنهم من أدى نصفها. جميع الأصدقاء كانوا هناك؛ حضرت الأسرة كذلك، فضلا عن شخصيات مسرح «ديكليك تياثر» والمقربين من بابي، الأستاذ...
استغرق الحفل حوالي ساعة ونصف، وكان ناجحا بكل المقاييس. فقد تجاوب معه الجمهور بتلقائية كبيرة، حد أن سيدة بادرت إلى تسليم جمال ظرفا احتوى على 500 فرنك. في ذلك المساء، تسلم جمال أول منحة حقيقية... لكن الأهم من ذلك هو أن ذلك المساء شهد ولادة نجم حقيقي في الـ«وان مان شو.»
كان النجاح الذي لاقاه العرض الأول الحقيقي لجمال باعثا للأستاذ بابي على متابعة السير. كان لزاما عليهما أن يجدا قاعات أخرى وأمكنة جديدة يقدم فيها الفكاهي الناشئ عروضه. فقدم عروضه في مسرح لافيريير بمدينة سكارابي، حيث أبلى البلاء الحسن أمام حوالي 300 شخص، ثم رامبوييي أمام جمهور أغلبيته من الفرنسيين الأصليين قبل أن يقرر الاثنان الانتقال إلى باريس حيث قدم جمال عروضه في قاعة لوموفيز، وفي لوفولي بيغال، ومسرح تريفيز... إلا أن الكوميدي وأستاذه خاب ظنهما حين عوملا بسخرية أثناء التداريب من قبل المشرفين على قاعة بوان فيرغيل...
رغم كل شيء، لم يتخل بابي، أبدا، عن صغيره. فقد كان يشرف على كل صغيرة وكبيرة. كان هو من يتكلف بطبع الملصقات الخاصة بعروضه بمساعدة من رشيد بن الزين؛ وكان يتكلف بتوزيعها وبتنقلاته داخل باريس. في إحدى المرات، وبينما كان بابي يقف على عتبة منزل أسرة الدبوز، قالت له فاطمة، أم جمال: «سي بابي، أنت والده الثاني.»
ظل جمال يقدم عروضه كل يوم اثنين وثلاثاء في قاعة موفيز لمدة 7 أشهر، إلى غاية شهر يونيو 1996. وفي نونبر ودجنبر 1995 وبينما كانت باريس معطلة بفعل إضراب وسائل النقل، كان الجمهور يتزاحم في صف الانتظار بزنقة ميشيل لو كونت في المقاطعة الثالثة ليحضر عروض جمال.
وقد خصصت «لوباريزيان» في عدد 31 أكتوبر 1995 لأداء جمال الدبوز مقالا من أربعة أعمدة مع صورة في طبعتها الوطنية. المقال كان بعنوان: «شاب من الضاحية يحكي أحداث يومه: فكاهة جمال ورقته.»؛ وكتبت فيه الصحافية ناتالي سيغون ما يلي:
« خبر سعيد يأتي من الضاحية. أخيرا، تنتج الضاحية فكاهتها الخاصة بها (...) وجمال، 20 سنة، القادم من طراب هو بطلها. هذا الشاب، ذو الأصل المغربي والموهبة الكبيرة والمتفجرة يعد ظاهرة. (...) بهذا العرض المضحك والذكي إلى حد بعيد يعطي للعاصمة فرصة نادرة لتكوين رؤية أخرى عن الضاحية.»
من جهتها نشرت صحيفة «لوكنار أونشيني» في عدد 8 نونبر 1995 مقالا مشابها يمدح جمال وموهبته الفكاهية، لاسيما أنه من أبناء الضاحية التي طالما عانت من التهميش حد أن الكثير لم يؤمنوا بأن في مقدورها أن تنجب مواهب من هذا العيار.
وفي الجهة الأخرى من البحر المتوسط، كتب أحمد غياث في زاويته المعهودة «Chronique d’un beur» بـ «لوماتان دو صحارا» عن ميلاد نجم. ومن هذه الزاوية، أطلق غياث فكرة جمع النجمين المغربيين الصاعدين، جمال الدبوز وجاد المالح، في عمل فرجوي واحد من أجل «تبيان وجهين متكاملين للجالية المغربية بالخارج.»
الفكرة وجدت لها صدى عند مسيرات جمعية «الإحسان»، اللواتي يشرفن على دار اليتامى «للا حسناء» في الدار البيضاء، فاقترحت هؤلاء النساء تنظيم حفل كبير، يوم 11 نونبر 1995، لفائدة أطفال الجمعية.
التقى جمال وجاد في أحد مقاهي باريس بساحة شاتلي. كان ذلك هو أول لقاء يجمع العربي جمال باليهودي جاد. يقول جمال عن هذا اللقاء: «أنا لم أكن أريد لقاءه، لم أكن أعرفه.» ويقول جاد: «الحقيقة أن كل واحد منا سمع عن الآخر، قبل أن نلتقي». ويعود جمال إلى تذكر ذلك اللقاء بكثير من الحنين: «نعم التقينا بمقهى ساراه بيرنارد. كانت ذكرى جميلة لتعاوننا.»
التقى الفكاهيان وحضرا عرضهما بكل دقة قبل أن يحل الموعد. قدما عرضهما بقاعة الحفلات بفندق شيراتون بمدينة الدار البيضاء.

جمال يضطر إلى إعادة مشهد يصفعه فيه والده 27 مرة قبل أن يقتنع المخرج بأدائه


مع مرور الأيام، التحق جمال بمسرح «ديكليك تياتر» وأصبح يقدم عروضا رفقة ألان وماري بيير دوجوا، اللذين يشكلان فرقة مسرحية تقدم عروضا ارتجالية من اقتراح الجمهور في المسارح الباريزية. لكن جمال كان يحلم دائما باليوم الذي يقدم فيه عرضا فرديا على الخشبة.
فاتح أستاذه بابي في الموضوع، الذي أدرك أن جمال الصغير صار يتوق إلى التحليق بأجنحته بدل أجنحة الآخرين. تفهم بابي الأمر، فدعا جمال إلى الجلوس أمام حاسوب وقال له:» الآن، ما تريد أن تقدمه على الخشبة، ابدأ بتحريره على الشاشة.» فالكتابة شيء ضروري في خلق الفرجة المسرحية. لكن ليس من السهل على فنان ارتجالي أن يكتب كلماته على الورق. لذلك، كانت الكتابة بالنسبة لجمال واجبا متعبا. إلا أنه وجد السند الكبير في مدير المسرح وزوجته اللذين ساعداه على الكتابة وواكباه إلى أن صار يقضي الساعات الطوال في تحويل كل ما تلتقطه بديهته حوله إلى أفكار، لاسيما أنه ماهر في لعبة التقاط التفاصيل أينما حل وارتحل، سواء في القطار، أو ملعب رياضي، أو في الحي السكني...
«أول من زرع في الرغبة في صياغة السكيتشات هو اسماعين». هكذا يردد جمال في كل مناسبة حديث عن بدايته. اسماعين، الجزائري، لعب دور الحامي لجمال المغربي. فقد دعمه أمام فرانسوا ميتران بمعهد العالم العربي، وها هو جاء يوم، 29 يونيو 1994، إلى مدينة طراب ليترأس حفل تقديم فيلم نبيل عيوش، «أحجار الصحراء الزرقاء»، الذي لعب فيه جمال دورا رئيسيا. جر عرض الفيلم القصير بحضور عمدة المدينة برنار هوغو ببناية غرونيي أسيل الرائعة، التي بنيت على أساسات تعود إلى القرن الخامس عشر وأعيد بناؤها سنة 1920؛ وتعتبر أحد آخر المآثر بالمدينة القديمة، حيث توجد قاعة السينما الوحيدة جون رونوار.
فيلم نبيل عيوش حاز جائزة كنال بلوس، كما كان له صدى كبير في المغرب؛ وهو ما جعل جمهورا كبيرا من أبناء مدينة طراب، المنحدرين من الهجرة، يحج إلى مشاهدته.
الفيلم يحكي، في أسلوب شاعري، قصة نجيب، المراهق الذي لم يفهمه قومه فهام في الصحراء، مؤمنا بأنه ملاق فيها أحجارا كبيرة زرقاء، رمز بحثه عن الحقيقة.
ركز المخرج، من أصل مغربي، المزداد سنة 1969 بباريس وكبر في سارسيل، في عمله السينمائي الأول هذا على كل ما يملك من مهارات لإبراز المقصود من فيلمه، معتمدا في ذلك على الشخصية التي يجسدها جمال الدبوز؛ الشاب الذي يسعى إلى تأسيس هوية خاصة به.
في طريقه في الصحراء، كان على نجيب أن يواجه أهله ومحيطه الذي اعتبره مجنونا. وحده شيخ القبيلة هو الذي قال له:» سلاحك هو إرادتك وإصرارك.» بقي له، بعد ذلك أن يتحدى الصحراء ليبلغ هدفه، أي ذلك الجبل الحجري الأزرق اللامع تحت أشعة الشمس الحارقة.
الحقيقة أن شخصية نجيب في الفيلم تشبه إلى حد بعيد شخصية جمال نفسه. فجمال، هو الآخر، في سعي دائم نحو مصير مشرق، فتراه إذن يعيش في الفيلم ما يعيشه في الحياة. فالمراهق النحيل نجيب، المعروف بجمال، الذي يحمل معه ذراعا جريحة تتدلى في الفراغ يحظى برعاية أمه التي تعزه أكثر من أي شيء آخر، تنصت إليه وتؤمن بأحلامه بينما الأب يصفعه لأنه يرفض أن يفهمه بعد أن تحدى الإبن سلطته.
من أجل تقديم جيد لهذا الدور الأول في حياته، كان على الممثل المبتدئ أن يتغلب على حاجز ثقافي يكمن في ضرورة الحديث باللهجة الدارجة. إلا أن جمال لا يتقنها جيدا. لكن نعيمة المشرقي كانت إلى جانبه لتتدخل من أجل إنقاذ الموقف بعد أن اتُّفق على كتابة تدخلاته بطريقة فونولوجية باستعمال القاموس المحدود الذي يعرفه. «في أماكن التصوير، بتافراوت، جنوب المغرب، تحكي نعيمة، كنا جميعا، ممثلين وتقنيين حوله لتقديم المساعدة إليه حتى يكتسب الثقة اللازمة في النفس. فقد احتضناه حتى يقدم أفضل ما لديه. كانت علاقتي به كالعلاقة بين الطفل وأمه.»
كان لزاما أن تقدم كل هذه المساعدة لجمال، الذي اضطر إلى إعادة المشهد الذي يصفعه فيه والده، الذي جسد دوره ابن ابراهيم، 27 مرة قبل أن يقتنع المخرج بأدائه.
عندما اشتعلت الأنوار في قاعة العرض، كان كل متفرج ما يزال يحتفظ في ذاكرته بمشاهد الطفل الصغير جمال، وهو يرتدي جلبابه المغبر، ويحمل كفه إلى السماء أمام الأحجار الزرقاء في الصحراء. لقد كان مشهدا غريبا وجد فيه الكثير من المتفرجين أوجه شبه بينه وبين القصة الحقيقية لجمال.
صفق الجمهور الحاضر لأداء الممثل الناشئ، الذي أبدع في أدائه، بينما احتضنه «الأخ الأكبر» اسماعين في كواليس العرض. برنارد هوغو، عمدة المدينة، جاء هو الآخر يهنئ جمال على موهبته المعجب بها قبل أن يهمس في عمق أذنه أنه سيكون مسرورا بتقديم المساعدة إليه في يوم من الأيام.

القنديلي جعل رغبة جمال في الحصول على «ميكروفون-كرافات» حديث الجميع في وزارة الثقافة


بعد سنوات طويلة من البؤس والمعاناة، ها قد حلت اللحظة التي اقترب فيها جمال من تقديم حفل الـ «وان مان شو»، أو الأداء الفكاهي الفردي. شعر بأن عمله اكتمل واقترب من النهاية المأمولة. لا بل إنه صار الآن يملك تلك الوسيلة العجيبة التي تجعل صوته يصل إلى الجمهور من غير عناء، أي الميكرو الصغير الذي يثبت على ربطة العنق، أو «الميكرو كرافات».
قبل أشهر عدة، تحدث جمال مع أمه في الموضوع.» سرعان ما أدركت قصدي، يروي جمال. كانت أمي متضامنة معي في كل شيء (...). كانت تسعد كثيرا عندما تراني حققت ما أريد. اضطرتْ إلى اقتراض 40 ألف فرنك، أي ما يوازي راتبها الشهري لستة أشهر، كي أحصل على هذا الميكروفون. وذلك لأنه قيل لها إن هذا الميكرو ضروري لأصبح ممثلا. ليس لأنها تؤمن فعلا بأنني يمكنني أن أنجح في ذلك، لكن لأنها كانت تريدني أن أفعل ما يعجبني.»
إلا أن الميكروفون سيساوي أقل من الثمن المتوقع. كيف؟. قصد جمال وزارة الثقافة حيث التقى خالد القنديلي الذي عين في ذلك الوقت مكلفا بمهمة لدى الوزير فليب دوست بلازي من أجل إطلاق برنامج «ثقافة- اندماج- شباب» في أحياء الضاحية على نموذج «رياضة- اندماج- شباب».
تقدم القنديلي بطلب دعم حكومي لفائدة الفكاهي المبتدئ وظل يتابع الموضوع عن قرب حتى باتت حكاية الميكروفون المحمول على لسان الجميع في الوزارة. من جهته، حرك أحمد الغياث علاقاته الخاصة. «كنت أعرف سفير المغرب في فرنسا، محمد برادة، يتذكر الغياث. وفي أحد لقاءاتنا، حدثته عن هذا الصبي الموهوب الذي يتشبث بولوج عالم الـ «وان مان شو»، والذي يحتاج إلى «ميكروفون- كرافات» ليقدم أعماله على الخشبة لأنه يعاني من عاهة في ذراعه. بعد أسبوع، هاتفني السفير ليقترح علي تنظيم حفل عشاء خاص في إقامته بمدينة نولي على شرف جمال، وبحضور شخصيات نافذة لها علاقات بالمغرب.»
جمع الحفل، فضلا عن أحمد الغياث ودمنيك ستراوس كان وآن سان كلير، كلا من مارك لافوان وساراه بونياتوفسكي، اللذين عقدا قرانهما في مراكش، وفردريك ميتران وكلود سريون إضافة إلى صحافيين أو ثلاثة...
وصل جمال إلى الحفل مرفوقا بوالده أحمد على سيارته، التي كان ينوي أن يظل منتظرا فيها إلى غاية انتهاء الحفل والعودة مع ابنه من حيث أتيا. إلا أن السفير المغربي أبى إلا أن ينضم أحمد الدبوز إلى الحفل.
في نهاية اللقاء، همس برادة في أذن أحمد الغياث سائلا إياه إذا ما كان بوسع جمال أن يقدم سكيتشا أمام الحضور. طبعا، كان جمال يتوقع طلبا كهذا، فحضر سكيتشا لهذه المناسبة وقدمه أمام الحضور، الذي أعجب بموهبة هذا الفكاهي الشاب.
بعد بضعة أيام فقط، أرسل السفير المغربي للموهبة الصاعدة شيكا بمبلغ 20 ألف فرنك «من حسابه الخاص»، يؤكد أحمد غياث.
ركز جمال، رفقة أستاذه ومخرجه بابي، على التدقيق في عرض الـ «وان مان شو» الذي واظب على تحضيره طويلا. إلا أن ظروف التحضير لم تكن أبدا سهلة، بل لقد عانى الاثنان من عدم وجود قاعات تصلح للعرض؛ أما إذا وجدت، فقد يأتي من يزعج سير العمل؛ وهو ما يضطر الاثنين في حالات كثيرة إلى مبادلة المزعجين من أبناء الأحياء بنفس العنف اللفظي، فيكون جمال موضوع هجوم لفظي آخر من قبيل: «لست إلا خائنا، إذهب إلى الجحيم أنت وأصلك.» وقد يرد جمال بكلام مثيل من قبيل: «أنت من تذهب إلى الجحيم، يوما ما ستراني أقود سيارة مرسيدس.»
حلم جمال بأن يقدم أول عرض له في قاعة العرض الجديدة لاميريز، في حي لي ميريزيي، التي افتتحت مؤخرا وسط حفل كبير. إلا أن المشرفين على القاعة رفضوا ذلك لأنهم اعتبروا أن جمال ما زال دون مستوى أن يقدم عروضه في هذه القاعة؛ وهو ما أغاظه كثيرا. لكنه، توعدهم بأنه سيعود يوما ويقدم عروضه فيها، حين سيتزاحم الجمهور على عروضه ويؤدي الثمن الغالي من أجل حضور عروضه. كان عليه أن يكتفي، إذن، بالقاعة القديمة جون باتيست كليمون.
كان الموعد حاسما، لا مكان فيه للخطإ، خاصة أن جمال يعرف أن هنالك من يترصد ويتمنى وقوعه حتى لا ينجح في مساره. «لو فشلت، يقول جمال، سيكون من الصعب علي القيام من جديد لتجاوز الوضع... عموما، إن لم أنجح في تقديم الفرجة للناس فلن أنجح في أي شيء آخر. فأنا لا أصلح حتى لأكون عامل زبالة بسبب ذراعي المعاقة. ما أريد أن أفعله هو الفكاهة، أريد أن أضحك الناس وأن أكسب مالا أساعد به أسرتي.»

الطفل جمال يقدم عرضا مقتضبا نال استحسان الرئيس ميتران


كانت سنة 1992 على الأبواب. لائحة الضيوف المدعوين إلى الحفل الاعتيادي الخاص بـ «متمنيات القوى الحية للأمة» في فرنسا يوجد عليها اسم خالد القنديلي. شك البطل في صدقية الدعوة التي توصل بها رغم أنها تحمل دمغة رئاسة الجمهورية. فالرئيس، فرانسوا ميتران، شخصيا يدعوه إلى الحفل اعترافا منه بالدور الكبير الذي يلعبه البطل الفرنسي ذو الأصل المغربي في النسيج الجمعوي المغاربي وأوساط المهاجرين عموما. فكر البطل الشاب، لحظة، في مهاتفة الإليزي للتأكد من صحة الدعوة، إلا أنه تراجع. وفجأة، وقع بصره على عبارة تقول بضرورة الالتزام باللباس الرسمي، وتذكر أن دولابه خال من أي بذلة رسمية، ولا توجد فيه ولو ربطة عنق واحدة. فكان أول من فكر فيه هو صديق الطفولة في حي شنونسو بمدينة مو، إسحاق مارسيانو، اليهودي من أصل مغربي، الذي كان «يملك محلا لبيع الملابس للرجال في باربيس، يقول خالد. كاد يجن عندما أخبرته بأنني توصلت بدعوة من الإليزي، قبل أن يقلب المحل كله بحثا عن بذلة تناسبني. وجدنا البذلة المناسبة، ثم ربطة العنق ولم يبق لنا إلا الحذاء.» كانت فرصة لا تعوض بفضل صديقه خالد، سيتمكن إسحاق من إدخال أجمل بذلة له إلى الإليزي...
ها قد أصبح رئيس جمعية «رياضة- اندماج – شباب» جاهزا للموعد الكبير. لكن ثمة تفصيل حرص عليه البطل. فقد جرت العادة في المغرب بأن يحمل الضيف، الذي يدعى لأول مرة عند شخصيات مرموقة، هدية معه. ففكر القنديلي في أن يضحي بالقفازتين اللتين خاض بهما نزال بطولة العالم في التيكواندو وفاز بها. تأبط البطل العلبة التي وضع فيها الهدية واتجه رأسا إلى الإليزي. كان شعورا غريبا ذاك الذي استبد بهذا الشاب الذي أصبح يسمى بـ «مطفئ الحرائق» لمهارته في إخماد كل احتجاج أو مواجهة في أحياء أبناء المهاجرين. شعر بأنه صغير في قصر الإليزي، و»حمدا لله على أن تعرفت على نيلسون بايو، رئيس اللجنة الأولمبية الفرنسية، الذي سرعان ما هدأ من روعي، يعلق خالد.»
أنهى فرانسوا ميتران لتوه خطابه، وتوجه إلى مدعويه للسلام عليهم. وعندما اقترب من خالد القنديلي حبس الأخير أنفاسه، فبادر نيلسون بايو إلى محاولة تقديمه للرئيس قبل أن يقاطعه الأخير فجأة:» أعرف جيدا من هو هذا السيد. بالمناسبة، اكشف لنا شيئا عما يوجد في علبتك فقط لطمأنة جميع الحاضرين هنا...». فتح خالد العلبة بينما كان الجميع يضحك؛ إلا أن الرئيس لم يتوقف عن الحديث إلى ضيفه:» السيد القنديلي، يجب أن أراك في أقرب وقت ممكن.» فرد عليه الشاب، الذي تخلص من حرجه:»بكل سرور، السيد الرئيس.»
أسبوع بعد هذا اللقاء، كان خالد القنديلي يجلس وجها لوجه مع الرئيس ميتران في قصر الإليزي:»تكلم لي قليلا عن نفسك، أيها الشاب، واطلب ما يمكن أن أساعدك به.»
كان متوقعا أن لا يستغرق اللقاء أكثر من بضع دقائق، إلا أنه طال لأكثر من ساعة. «حكيت له كل شيء، يروي القنديلي. حدثته عن ولادتي في حي صفيحي بالرباط، يعقوب المنصور، سنة 1961، من أم دكالية وأب صحراوي، ورحيلنا إلى نانتير، واستقرارنا في حي صفيحي آخر، حي لافولي مع أمي حيث كان يشتغل أبي كبناء في ورشة قريبة من هناك.(...) لا ماء ولا كهرباء ولا قنوات لصرف المياه العادمة. في الشتاء كنا نغرق في الوحل. كنت أرى أمي دائما ملطخة بالوحل وهي تحمل مولودها الجديد بين يديها (...) انتقلنا بين العديد من الأحياء، إلى أن استقر بنا المقام في مدينة مو، بعمارة كبيرة بحي بيير كوليني. وبهذه المدينة أسست جمعية «رياضة- اندماج- شباب» (...).» لم يأت خالد إلى الإليزي ليثقل على الرئيس بحكاياته، إلا أنه جاء ليحصل على شيء لفائدة أولئك الذين يحتاجون للمساعدة. فطلب من الرئيس أن يشرفه بالحضور إلى أحد أصعب الأحياء في المدينة، حي إبيناي سور سين. كان خالد ينوي أن يدعو الرئيس إلى حفل تسليم الجوائز للمتميزين في مختلف المجالات التنافسية في إطار الجمعية التي يديرها القنديلي.
5 يونيو 1992، كانت أمسية استثنائية. غليان كبير في أحياء المهاجرين. مروحيات تطوف فوق العمارات السكنية، توجه أضواءها الكاشفة إلى جميع الأمكنة، بينما اتخذ رجال التدخل السريع ونخبة القناصين في الدرك أماكنهم على السطوح. قبل ذلك، كانت جميع هواتف المسؤولين بالجمعية وبالحي قد وضعت تحت التصنت لاستباق أي طارئ. فالحي معروف بصعوبته وبتوتره. وكان من بين الحاضرين المرموقين رفيق الحداوي، الوزير المغربي المكلف بالجالية المقيمة بالخارج في حكومة جلالة الملك الحسن الثاني، مرفوقا بمقربين اثنين من ولي العهد سيدي محمد، وهما فاضل بن يعيش وسمير اليازيدي. حلت اللحظة التي انتظرها الجميع. وصلت مروحية الرئيس، وانطلق الحفل وسط التزام كبير من الجميع بالهدوء والصمت بعد أن ألقى كلمة مختصرة.
وكما كان متوقعا، قدم جمال الدبوز أداء طيبا نال عنه تشجيعات الحضور وانفراج أسارير الرئيس، الذي بدا أنه أعجب بالسكيتش الذي ارتجله هذا الطفل الخفيف خفة الريشة. وفي السنة الموالية أقيم الحفل في معهد العالم العربي بحضور الرئيس مرة أخرى وعدد من الشخصيات الرسمية والفنية. كان هنالك سماعين، الوجه الفني المألوف، الذي شجع جمال وسانده في السير على طريق واحد مع فارق أن الأول عكس بسخريته الضاحية في الثمانينيات، والثاني عكس الضاحية زمن الراب والعنصرية والعنف.

جمال يدافع عن مغربيته أمام الطلبة بكلية ابن مسيك


تكللت السنة الدراسية بقرار سلبي في حق جمال الدبوز. فقد قرر مجلس الأساتذة رسوب هذا التلميذ الذي بالغ، في نظرهم، في الغياب. كان قرارا استثنائيا غير معهود، لكنه فرض من قبل الحارس العام.
إلا أن القرار لم يرق أستاذة القانون والاقتصاد، دلفين فاسور، التي كانت أكثر الأساتذة تفهما لشخصية جمال. إلا أن حكايتها معه لم تبدأ بسهولة. فقد عانت، هي الأخرى، في البداية من مشاكسته حتى كادت تتخذ موقفا سلبيا منه. فاستدعت أبويه، وحضر بدلهما خاله قبل أن تتعرف على الأسرة وتتقوى علاقتها الخاصة بها.
اكتشفت، حينها، أن هذا التلميذ يملك شيئا يميزه عن الآخرين. «كان واضحا، تقول دلفين، أن بإمكانه أن ينجح في حياته. فتشبثت به».
وخارج العلاقة أستاذة- تلميذ، تحولت الروابط بين دلفين فاسور وجمال، تدريجيا، إلى صداقة حقيقية. وفي خلال ذلك، عرفها برشيد بن الزين، رئيس جمعية «نافذة الإغاثة»، الذي كان حينها أستاذا للاقتصاد في مدينة طراب، والذي أصبح هو الأخ الأكبر لجمال لاسيما أنه هو الذي كان حاضرا إلى جواره بعد أن كادت تقفل في وجهه أبواب المستقبل المهني.
أعجبت أستاذة الاقتصاد بشجاعة الأم فاطمة عندما زارتها في البيت وتعرفت على أشقاء وشقيقات جمال.
ذات مساء، أسرَّ جمال لصديقه و«أخيه» رشيد بن الزين قلقه وحيرته بشأن سؤال متابعة الدراسة أم التخلي عنها للتفرغ لصقل موهبته وتطويرها وتجريب حظه في عالم الفرجة. وفي اليوم الموالي، اتخذ القرار النهائي بحضور دلفين: جمال سيكون فنانا فرجويا.
وبينما كان جمال ينهي علاقته بالثانوية إلى الأبد، توصل بدعوة للمشاركة في حفل فرجوي بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. كان حينها المراهق الفنان التقى لتوه مع شخص معروف بعمله التربوي الكبير في الأحياء الصعبة بالضواحي الفرنسية، ليرسم الطريق الصحيح للأطفال في وضعية صعبة. يتعلق الأمر بأحمد الغيات، الذي أسس بالمقاطعة الثامنة عشرة بباريس جمعية «خارج المنطقة» (Hors la zone). اكتشف جمال خلال حفل للمسرح الارتجالي، وقال عنه: «(...) كان ذكيا. أضحكني كثيرا، فاقترحت عليه أن يزورنا بباريس ليحيي حفلات مسائية عندنا.»
سُرَّ جمال لإعادة ربط الاتصال بالحي الذي ولد فيه. أحمد الغيات سيمنحه فرصة المشاركة في مشروع كبير يعبئ الكثير من «الإخوة الكبار» عبر الحزام الباريسي الكبير ويهدف إلى خلق روابط التواصل بين الشباب من أصول مغربية، المزدادين في فرنسا. لأن الحكومة المغربية بدأت، منذ سنة 1990، الاهتمام بهؤلاء الشباب المنتمين إلى الجيل الثاني والثالث للهجرة، الذين لا يحتفظ لهم أهل البلد إلا بصورة منقوصة ترتبط بحلولهم بالبلد خلال العطلة مكدسين في سيارات 305 بريك، ومحملين بالكثير من الأمتعة... يتصورونهم أغنياء، لهم الكثير من الأموال. يعتبرونهم «فاكانسية» متباهين بوضعهم وبمالهم وممارساتهم. أجيال الهجرة تشعر بهذا الشرخ الموجود بينها وبين أبناء البلد. لذلك لابد من القيام بشيء يمكنه أن يقرب المسافات بين أهل البلد المحليين وبين أولئك المنحدرين من أصول مهاجرة، وتغيير تلك الصورة التي التصقت بهم من دون سند أو مبرر وجيه.
وفي إطار محاولة ردم هذه الهوة، نظمت مؤسسة الحسن الثاني بتعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن امسيك بالدار البيضاء منتدى حول موضوع «المهاجرون، نظرة جديدة».
غصت قاعة المدرج الرئيس بالكلية بحوالي 500 طالب، وكان من بين الحضور عدد من الشخصيات الفكرية والفنية، منها نعيمة المشرقي وزوجها عبد الرحمان الخياط ووفد فرنسي من المسؤولين عن بعض الجمعيات منهم رشيد بن الزين وخالد القنديلي وأحمد الغيات، الذي كانت له فكرة إدماج متدخل- مفاجأة ليضيف إلى مختلف التدخلات شهادة حية غير منتظرة عن حياة المهاجرين أبناء الهجرة في فرنسا.
كانت الشهادة، طبعا لجمال الدبوز، الذي ظل الجمهور يرمقه وهو يعطي الانطباع بأنه محاضر حقيقي. تسلم الميكروفون، تأكد من اشتغاله ومن سلامة صوته قبل أن يقول:» السيد الوزير، ممثل جلالة الملك، السيدات والسادة، ها من نحن، ها من أنا: مغربي، لكنني فرنسي كذلك. نحن أبناء عمومة، وأنتم تنظرون إلينا بعيون غريبة...». كان لخطاب جمال وقع إيجابي على الحاضرين. الجميع أُعجب بهذا الفتى الصريح، الذي كان بارعا في التعبير وفي الانتقال بين العربية والفرنسية بسلاسة عجيبة، وكان بارعا أيضا في إعطاء الحضور درسا في التواصل على بعد 2000 كلم من الثانوية المهنية هنري ماتيس في مدينة طراب بفرنسا.

والد جمال كان يقول «إن التمثيل مهنة مدمني المخدرات»


بعد عودة من رحلة قصيرة قادته مع عدد من الزملاء رفقة رشيد بن الزين، عن جمعية «نافذة الإغاثة»، شعر جمال بأن حياته آخذة في التغير. حكى جمال لأصدقائه ولأسرته تفاصيل الرحلة المغربية. أنصت إليه أبوه وأمه، التي كانت تحلم بمستقبل باسم يسعد ابنها. شكرت الله على جميله، بينما كان الأب، أحمد، يتمنى أن لا يكتمل أي مشروع من تلك التي يحلم بها جمال وأمه. «جمال لن يكون ممثلا. التمثيل مهنة مدمني المخدرات»، قال الوالد. لا يجب الاقتراب من هذا. لا أريد ممثلا في أسرتي. وإذا كنت قبلت بالمسرح الارتجالي، فهذا تسامح كبير مني. مستقبل جمال في التجارة، هو موهوب في التجارة.»
خلال عطلة نهاية السنة، وبينما كان جمال في كيبيك وفي المغرب مع فرقته الهاوية، قررت الأسرة سحب ملفه من كوليج غوستاف كوبير لنقله إلى إحدى الثانويات المهنية. فالأب صار أكثر قلقا على مستقبل الإبن البكر. كان يحضر كل الاجتماعات التوجيهية مع الأساتذة، إلا أنه لم يكن ليدرك ما يقولون. «مشكلتي، يقر جمال، هي أنني لم أوجه بالشكل الصحيح في المدرسة، لأنه لم يكن أحد في أسرتي يملك التراكم الثقافي الكفيل بتوجيهي في الاتجاه الصحيح. في المستوى الدراسي الثالث قيل لي: أنت بارع في الحديث، ستشتغل بائعا تجاريا. كان أمرا غبيا، لأنني كنت أهوى حصص تفسير النصوص، والقراءة».
وبينما انتهت السنة بنتيجة كارثية رغم النتائج المشرفة في اللغة الفرنسية، ارتأى مجلس التوجيه أن يطلب من الأبوين أن يسجلا جمال في سلك دروس شهادة الدراسات المهنية بالثانوية المهنية هنري ماتيس.
كانوا 650 تلميذا يلتحقون بالثانوية. أفقهم المهني الوحيد هو أن يصبحوا «في أفضل الحالات رئيسي جناح تجاري في أحد الأسواق الممتازة، وراتب يكفي بالكاد لشراء بذلة C&A وسياقة سيارة فورد إسكورتXR3، يقول جمال نفسه.»
لم يكن التلميذ جمال الدبوز ليقبل بالحضور السلبي في القسم، بل كان يسعى دائما إلى التميز عن الآخرين وإثارة الانتباه إليه دون أن يفرط في الظهور بمظهر المتعقل، الرصين، المختلف عن أقرانه، وباللباس. ففي الوقت الذي يرتدي فيه رفاقه سراويل الجينز، والأحذية الرياضية، والأقمصة الشبابية الفضفاضة... يفضل جمال أن يرتدي سروالا بطية سفلى كلاسيكية وقميصا مكويا بشكل جيد...
قبل بداية إحدى حصص اللغة الفرنسية، عبأ جمال جميع التلاميذ ووزع عليهم الأدوار بين من يقوم بدور الديك، والبقرة، والخنزير، والحمار، والدجاجة... ولما أقبل الأستاذ، استُقبل بأصوات الحيوانات كما لو كان الأمر يتعلق بحظيرة حقيقية... أما في حصص تعلم تقنيات البيع والشراء، فقد كان يحول العملية لتصبح ارتجالا على مزاجه طالما يتمتع بالقدرة على توجيه الآخرين والتأثير عليهم.
استطاع جمال أن يقلب السحر على الساحر عندما نجح في أن يستفز أستاذ الفرنسية، الملقب بـ «سوبرمان» لأنه كان صاحب بنية قوية وتكوين رياضي في التايكواندو جعله يتدخل في العديد من المرات لينقذ التلميذات من عمليات سطو خارج الثانوية. ظل جمال يناوشه إلى أن غادر الأستاذ قاعة الدرس، لا بل إن جزءا من الجسم التعليمي كان له رأي واحد في جمال، لأنه كان مشاكسا إلى حد بعيد. هذه السمعة جعلت الحارس العام للمؤسسة يعزله في مكتبه عن بقية التلاميذ. إلا أن جمال كان ساعتها يحتاج إلى مباركة الحارس العام للحصول على إذن منه بالغياب لأنه كان عليه أن يسافر إلى المغرب ليؤدي دورا رئيسيا في فيلم قصير بعنوان «حجر الصحراء الأزرق». فاتح، أولا، أستاذته الرئيسية مريام كوتيل قبل أن يتكلم مع الحارس العام ألان دوهام، لكنه «رفض، يحكي جمال، أن يأذن لي بالغياب ثلاثة أيام. خيرني بين هوليوود أو الدراسة، فاخترت هوليوود، فسافرت إلى المغرب للعب دوري في الفيلم بعد أن طلبت من صديق لي كان يشتغل في سفارة المغرب بباريس أن يبعث بفاكس رسمي إلى الثانوية ليخبرهم بأنني تلقيت دعوة من الوزير المغربي المكلف بالجالية المغربية بالخارج، وأن الأمر يتعلق بقضية دولة».
توجه جمال، إذن، إلى المغرب بمباركة من الحارس العام، الذي ربما فضل أن يغيب جمال بعض الوقت عن الثانوية ليستريح من مشاكسته، خاصة وأنه يعتبر جمال «تلميذا طيبا، إلا أنه غير متحفز ويتغيب بدون مبرر جدي. هذا التلميذ لا مستقبل له...».
وبعد مرور عدة أشهر، وبينما كانت زوجة الحارس العام تشاهد التلفزيون بلامبالاة رأت الطفل «الذي لا مستقبل له» على الشاشة يقف أمام جون بيير فوكو في أمسية خاصة بالمغرب، صورت بحدائق القصر الملكي بالرباط. فصرخ الحارس العام:» ماكر هذا الفتى. فقد خدعني مرة أخرى.»
في اليوم الذي شارك فيه جمال في إحياء ذلك الحفل، كان يفترض أن يحضر تدريبا إلزاميا في المقاولة. كان مقررا ان يلتحق بالرواق التجاري بالمركز التجاري لوكليرك دو موربا لبيع ربطات العنق.
يتذكر جمال تلك الحكاية فيقول:» في الوقت الذي ركزت علي الكاميرا أمام جون بيير فوكو شاهدني السيد دوهام (الحارس العام). وبعد أسبوع التقاني ليسألني

اكتشاف المسرح الارتجالي يكسر الحواجز الاجتماعية والثقافية في حياة جمال


كان من حظ جمال الدبوز أن اختير من قبل أستاذ المسرح الارتجالي، المعروف باسم، بابي، من بين المرشحين لتكوين فريق يمثل المدينة في بطولة فرنسا للشبان للمسرح الارتجالي سنة 1991. كان الدبوز هو الوحيد الذي وقع عليه الاختيار في ثانوية غوستاف كوربي قبل أن ينضم إليه أربعة تلاميذ من ثانوية أخرى وتلميذ واحد من السلك الإعدادي. ورغم أن الدبوز كان هو أصغر الآخرين سنا، فقد منح صفة قائد الفريق. وقد استطاع هذا الفريق، بقيادة قائده، أن يبلي البلاء الحسن في المسابقة ويضمن مكانا متميزا في نصف النهائي. ورغم الأداء المتميز الذي قدمه الفريق منح الفوز للفريق المحلي من باب المجاملة؛ وهو الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة في القاعة بضاحية مدينة ليل.
ومن بين الأصوات المحتجة والمنددة خرج الدبوز ليقبض على الميكروفون ويتوجه بكلمة إلى الجمهور عبر فيها عن رضاه بالنتيجة من باب التحلي بالروح الرياضية، إلا أنه عبر عن ذلك بروح دعابة وسخرية فيها الكثير من الارتجال الهادف، قبل أن يحيي الجميع على طريقة الممثلين المسرحيين الكبار، حانيا ركبة ورافعا أخرى على وسط قامته. إلا أنه ظل يحمل غصة في قلبه من هذه الهزيمة غير المستحقة، التي حالت دون المشاركة في النهاية أمام فريق تور.
جاء المسرح الارتجالي في محيط جمال ليقلب الحواجز الاجتماعية والثقافية. فبعد العودة من كل مسابقة كان جمال يشعر بأنه لا يقل قيمة عن الـ«غوليين» (الاسم الذي أطلقه أبناء الهجرة على الفرنسيين الأصليين)، حتى الأكبر منه سنا، والأكثر نبوغا في الدراسة والأرقى انتماء اجتماعيا. من جهتهم، كان هؤلاء يعاملونه كما لو كان واحدا منهم. فلم يعد أحد يحكم عليه بناء على سنه أو عاهته الجسدية أو أصوله المغاربية، بل بناء على موهبته وكفاءته الفنية. يعلق جمال على هذه الفترة قائلا: «لأول مرة في حياتي شعرت بأنني مقبول ومعترف بي في مكان ما. لم أعد أسمع عبارة «انصرف يا عربي ! أو كلمة «ممنوع»، أو «لا تمس هذا»، أو «توقف»، «لا»، وصرت أسمع بدل ذلك: «تفضل، برافو، استمر، متى ستعود؟. أخيرا حصلت على مكان بعد أن بدأ الجميع يُشعرني بقيمتي؛ فأصبحت بالتالي متحفزا.» لقد بدأ جمال يسمع كلمات لم يسبق لأبيه أن قالها له أبدا، من قبيل: «هذا عمل جيد، يا بني.»
في يوم من الأيام، حضرت إلى مدينة طراب مجموعة تضم أربعة فنانين كوميديين مغاربة بدعوة من رشيد بن الزين وجمعيته «نافذة الإغاثة» (Issue de secours) في إطار التبادل الثقافي بين المغرب والمسرح الارتجالي لمنطقة إيفلين. كان من بين هؤلاء الفنانة نعيمة المشرقي، التي بعثت بها الصدفة إلى جمال في ذلك اليوم.
لقد أحب الجمهور الفرنسي جمال حبا صادقا منذ ظهوره في السلسلة التلفزيونية، عائلة رمضام، التي تركت صدى كبيرا في فرنسا بعد أن بثت على قناة «M6»، والتي لعبت فيها نعيمة المشرقي دور البطولة. فقد سجلت هذه السلسلة، التي تحكي القصص اليومية للأم المغاربية نجمة مع أبنائها أرقاما قياسية من حيث المشاهدة على امتداد عدة أشهر، متجاوزة الحواجز الاجتماعية. لكن وبينما انفتحت أمامها أبواب الشهرة الدولية، قررت نعيمة المشرقي الإبقاء على طموحاتها في حدود المغرب نزولا عند رغبة محيطها العائلي وأمها التي خشيت أن تتعرض ابنتها لمكروه عند الغربيين بعد أن شيطن الغرب صورة العرب في العالم على إثر اجتياح العراق للكويت. إلا أنهما أبقت على دورها كسفيرة مغربية لدى الأوساط المهاجرة في فرنسا، حيث نزلت ضيفة على مدينة طراب رفقة زوجها والكوميدي عزيز سعد الله وخديجة أسد؛ وبينما هي تزور المدينة، إذا بفتى صغير يأتي إليها ويحادثها فسرى بين الاثنين تيار الود والتعلق انعكس على وجه المشرقي، الذي أضاء بفعل هذا اللقاء الاستثنائي.
«كان طفلا يشع من عينيه ذكاء حاد، لكن جسمه كان يبدو نحيلا، تقول نعيمة المشرقي. ربما لم يكتمل نموه نموا طبيعيا بسبب حادثة القطار، إلا أن هالة ما كانت تشع منه تعوض ضعفه الجسدي(...)، شعرت في الحال بالرغبة في احتضانه كما لو كان ابني. وعندما رأيته يرتجل فرجته بلغة دقيقة ومعاني ساخرة(...) اندهشت. منذ تلك اللحظة آمنت بكفاءته. لم تكن لي إلا فكرة واحدة، هي أن أسنده ما استطعت كما لو كان ابن أحشائي...»
منذ ذلك اللقاء، صارت نعيمة المشرقي ترعاه كما لو أنها ملاك يحميه، واتفقت مع أستاذه بابي على عقد أخلاقي ضمني ينص على أن يلتزم هذا الأخير بتتبع مسار الطفل الموهوب. ودون أن يشعر بذلك، كان جمال الطفل يلج، شيئا فشيئا، عالم الكبار، ويلعب في ساحتهم. وعلى يد بابي وزملائه، استطاع جمال أن يشارك، سنة 1991، في بطولات العالم للمسرح الارتجالي في كل من إرلندا وسويسرا والمغرب وبلجيكا وكبيك. وفي السنة الموالية، التحق هو وزملاؤه بالبطولة الدولية للهواة في المسرح الارتجالي التي جمعت، في يوليوز 1992، بمونتريال، على أرض الرواد، أفضل لاعبي العالم في هذا التخصص.

الطب يعجز عن إعادة الحركة لذراع جمال المصابة في حادث القطار


سيناريوهات جديدة ظهرت بعد حادثة القطار، وجاءت لتعوض الأسى الذي تركه موت الفتى جون بول خاصة أن القضية لم يتم توضيحها بالكامل. البعض يقول إن زمرة الأصدقاء كانوا هاربين من مراقبي المحطة وأن جمال وصديقه سلكا طريق السكك، فيما قال البعض الآخر إن جمال وجون بول أعلنا تحديا غبيا على بعضهما البعض وهو: من منهما يستطيع أن ينسحب قبل الآخر من الرصيف عند مرور القطار...
علم جمال بموت صديقه جون بول في نهاية مقامه في المستشفى. فخلال الأسابيع الطويلة التي قضاها بمستشفى مينيو دو شيسناي، بالمركز الاستشفائي بفرساي، أخفى عنه الجميع النهاية المأساوية لصديقه. لا أحد تجرأ على البوح بما حدث، بينما تعبأ الجميع لتحضير جمال لحياة جديدة. وإذا كان الجراحون نجحوا في أن ينقذوا ذراعه اليمنى، فإن عمليات زرع أطراف من جسده اجتُزئت له من أطرافه السفلى لم تفلح في إعادة الحركة للذراع المصابة، سيكون عليه إذن أن يتعلم كيف يتكيف مع هذا العائق، لأن الطب، رغم التطور الذي حققه، بدا عاجزا عن أن يعيد لجمال كامل طاقته الحركية.
لم يتحمل المراهق، إلا على مضض، أن يظل حبيس سريره في المستشفى، إلا أنه سرعان ما تقبل الوضع الجديد الصعب. أي أنه لن يعود كما كان.
استعاد جمال عاداته القديمة، وعاود اتصاله بالمدرسة، لكن بذراع متدلية فقدت القدرة على الحراك وصار لزاما على المراهق أن يدسها في جيبه إلى الأبد. ولم يكن له أن يبكي مصيره، لأن «لا مجال للتباكي على حالنا، يقول جمال، هذا ما تعلمناه في البيت.»
لكن، سرعان ما استعاد الفتى الطموح كل طاقاته وحركيته المعهودة فيه قبل الحادثة. شعر بالرغبة القوية في العض على الحياة بالنواجد أكثر من أي وقت مضى. «مباشرة بعد أن أفقت من العملية، وفي اللحظة التي أخبرني فيها الطبيب بأنني لن أستطيع استعمال ذراعي بعد اليوم، طلبت منه قلمه فجربت الكتابة باليد اليسرى.» هي ولادة ثانية بالنسبة لجمال الدبوز.
شيئا فشيئا، أخذ الشاب الموهوب يتعرف على المسرح الارتجالي الذي حط الرحال بفرنسا قادما إليها من إقليم كبيك الكندي، وكذلك ببلجيكا وإيطاليا وسويسرا وإيرلندا وإسبانيا والمغرب، إلخ. وكان طبيعيا أن يكون هذا المغاربي هو الأول في هذا التخصص الجديد مع فارق أن المسرح الارتجالي في كيبيك ظهر في قاعات الهوكي، فوق أرضية جليدية، بينما يمارس في فرنسا في قاعات عادية.
ومما سهل الأمر على الشاب المغاربي هو أن المسرح الارتجالي لا يحتاج إلى التقيد بنص بقدر ما يعتمد على موهبة الفنان وقدرته على التصور السريع لسيناريوهات التقديم على الخشبة.
ولما كان جمال متشبثا إلى حد بعيد بضرورة الكشف عن مواهبه في هذا المجال، لم يكن ليخلف الموعد مع أي مناسبة أو ورشة عمل أو تدريب يعقد في هذا الباب. غالبا ما كان هو أول من يحل بمكان الورشة، وآخر من يغادره.
في خلال ذلك، تعلم الإلمام بأبعاد المجال حوله، والانخراط في جميع الأوضاع التي تلهمه مواضيع الارتجال، كما صار أكثر إنصاتا للغير من أجل حسن ارتجال الرد... وشيئا فشيئا أصبح يفرض ذاته في كل السكيتشات إلى أن صار هو القاطرة التي تجر خلفها بقية المواهب في هذا الفن الجديد.
من جانب آخر، كان مجرد حضوره يحفز الآخرين على حضور الأنشطة الموازية للنشاط الدراسي، بل أصبح الحضور إلى عروضه الارتجالية بثانوية كوربي حفلا لا يمكن التخلي عنه. وكان الجميع يبدأ بترديد اسم جمال في انتظار بدء المنافسة بين المؤسسات... وبفضله، استطاعت الثانوية أن تفوز بدوري الثانويات سنة 1990 بمدينة طراب، الذي تسلم فيه، أمام 600 شاب وشابة، أول نجمة؛ تلك التي تمنح لأفضل المرتجلين.
وفي زمن قصير، أدرك جمال قيمة النفوذ الذي يمكن أن يمارسه على الآخرين حد أن أساتذته كانوا يضطرون لإجباره على الجلوس في مقعد الانتظار لإفساح المجال لبقية زملائه الصغار ليعبروا عن مواهبهم. لكن جمال ليس من الصنف الذي يمكنه الجلوس طويلا في مقعد الانتظار. وشيئا فشيئا صار له المعجبون والمعجبات، وأصبحت الفتيات يتنافسن على حمل محفظته المدرسية.
لكن، إذا كان جمال اكتسب ثقة كبيرة في النفس تجاه صديقاته في الثانوية، فإنه ظل يحتفظ بكثير من الحشمة تجاه أستاذته ماري- أنيك لو فاوو، التي كان يثيره لباسها الـ«روك أن رول». فقد كانت تأتي إلى الثانوية بلباس جلدي على دراجتها النارية الجميلة ياماها 500.
ورغم كل الاحترام الذي كان يبديه تجاهها، اقترب منها، ذات مساء بعد نهاية الدرس، بعد خروج التلاميذ، وسألها في خجل: «أخبريني مدام، ما هو نوع دراجتك النارية؟...».

جمال الصغير يسرق أحذية «نايك» من الحصة التدريبية ويجني في اليوم مقدار ما يتقاضاه والده كراتب في الشهر


في الضاحية الشمالية لمدينة طراب، يجمع حي «ميريزيي» العديد من المجمعات السكنية الجماعية التي أطلق عليها اسم جميل، «سكوار»، والتي يتجمع حولها أكثر من 10 آلاف نسمة. عندما جاءت أسرة الدبوز إلى هنا، سنة 1983، كانت المباني في طريقها إلى التردي، بينما كانت شركة المساكن ذات السومة الكرائية المعتدلة آيلة إلى الانحلال القضائي.
هذا المناخ العام المتداعي شجع على ظهور الممارسات الانحرافية: علب الرسائل مكسرة، جدران ملطخة، زجاج مهشم، مصاعد معطلة... في هذا الفضاء الذي ليس بغريب أن ترى فيه مواكب من الصراصير تعبر الأمكنة والفئران «تتقافز» في الطوابق الأرضية؛ في هذا الفضاء تتراكم ساكنة تنحدر من 67 بلدا تتنوع لغاتها وثقافاتها. ثلثا أرباب الأسر يعدمون أي تأهيل مهني، 11 % من المساكن لا تؤدي واجب الكراء، حوالي فرد من كل خمسة يعانون البطالة. 44 % من السكان هم دون العشرين سنة.
الكثير من التلاميذ يجدون أنفسهم في فراغ قاتل بعد انتهاء حصص الدرس، فتراهم يتسكعون في الأزقة، أو متجمعين بمداخل العمارات. ثم عندما لا يكون أحد في المنزل لتحضير وجبة الظهيرة وليحث على مطالعة الدروس وإنجاز الواجبات المدرسية، يلزم التلميذ إرادة حديدية خارقة كي يقاوم الرغبة في الخروج إلى الشارع. فعندما يدق جرس نهاية الدروس، تكون فاطمة وأحمد الدبوز ما يزالان بعيدين عن إتمام يوم عملهما. بالنسبة للصغير جمال، الطريق مرسوم. دروس أخرى لتعلم أشياء إضافية تنتظره في الشارع.
«المدرسة بالنسبة لي كانت شيئا مقرفا. أغلب التلاميذ لم تكن لهم رغبة في الدراسة، يتذكر جمال؛ ثم إن الأساتذة لم يكونوا متحفزين. ما كانوا يسمونها ZEP (مناطق ذات الأولوية التربوية) كنا نسميها مناطق ذات التربية الرديئة. الأساتذة بدورهم كانوا متجاوزين، قريبين من الجنون، خائفين. غالبا ما كانت رغبتهم في التدريس تنهار بعد أن يكتشفوا أن زجاج سياراتهم مكسر دون أن يعرفوا السبب...».
كان جمال موزعا بين المدرسة والشارع والبيت، حيث يحثه الأبوان على الجد والكد في الدراسة. «كان أبي يتمنى أن أصبح طبيبا، أو مهندسا أو مهندس معلوميات. كان قلقا بشأن مستقبلي. كنت أشعر بأنه يخشى على مستقبلي، فيحذرني: «إذا تسببت يوما في ما من شأنه أن يجعل الأمن يدق في بابي، سأمحيك من دفتر الحالة المدنية». خالي، بدوره، كان يهددني بتكسير رجلي إن أنا رافقت بعض أبناء الحي المعروفين بسوء السلوك. لكننا لم نكن نرتكب الأفعال المنحرفة. كنا نرسم الاستيهامات عن قامة سامانتا فوكس، ونعلن التحديات على بعضنا البعض حول الفتيات وحول الرقص كذلك وكرة القدم والسيارات. كنا نتصور أنفسنا أفراد عصابة. في ذلك الوقت، كانت توجد بالأحياء السكنية عصابات حقيقية. (...) العصابة التي كنا نتمنى أن نكون منها هي عصابة «لي بلاك سبايدرز». كانت تستهويني بروح التضامن السائدة بين أفرادها ضد الخصوم. كانوا خارج النظام التقليدي. كنا نتطلع إلى تقليدهم. يقتحمون المخابز ويأخذون ما يريدون، كانوا يلبسون بالمجان... يفعلون كل شيء دون أن يطلبوا شيئا، لأن لا أحد يطلب منهم شيئا...». الثورة على الأوضاع شيء يعرفه جمال الدبوز؛ لكن على مستوى المنزل، الأمر مختلف. فقد علموه كيف يلزم الحدود المعقولة في السلوك؟ علموه أن يمشي جنب الحائط، وأن لا يطالب أو ينتقد شيئا في الشارع. بل يجب الاكتفاء بالشيء القليل. «لم يكن لنا أن نشكو حالنا في البيت، يقول جمال. لا حق لنا في أن نبكي مصيرنا. كنا نأكل ملء بطوننا، لم نكن نحتاج لأي شيء، ولو أن مشاكلنا مع الديون والقروض كانت كثيرة.»
في ساحة المدرسة، كان جمال يحيط نفسه بعصابة صغيرة كانت تشكل فريق حراسه المقربين. صحيح أنه أصغرهم جسديا، إلا أنه كان يفرض الاحترام عليهم؛ ويعوض نقصه الجسدي وما يترتب عن مرض الربو بخفة حركته، وسرعة رجليه. لكن، في علاقته بعصابته الصغيرة يعطي الانطباع دائما بأنه جدي وصارم، متشبها في ذلك بـ «دومنيك»، زعيم عصابة «بلاك سبايدرز»، الأطفال- الكبار السود، الذين لا يتجاوزون 14 أو 15 سنة، والذين كانوا يرهبون تلاميذ كوليج غوستاف كوربي عند خروجهم من فصول الدرس. صحيح أنه معجب بهم، لكن إعجابه لا يتجاوز حدود الاستيهام، بعيدا عن العدوانية والعنف. ما يعجبه فيهم، بالضبط، هو أسلوبهم المستلهم من أفلام الهيب هوب سنوات الثمانينيات ومظهر الـ «بيت ستريت». ومن أجل أن يشعر بالانتماء إلى عالم الكبار الأشداء، لم يكن جمال يكتفي بحركاته البهلوانية، بل كان يحاكي النماذج الأكثر شهرة. يحكي متحدثا عن مراهقته:» في سن 13، كنت أتسكع مع أشكال متسخة حقا، أشخاص مجانين وخطرين بمعنى الكلمة.
كنا ننزوي في زوايا الحي، لكن أعيننا كانت على مركز المدينة لنرى ماذا يجري هناك، ونراقب السيارات الفارهة التي لم تكن تصل إلى مناطق سكننا، وإلا كنا خدشناها وكسرناها أو سرقناها. شخص مثلي لم يعهد الركوب إلا على بوجو 305 بريك، لا يمكنه أن يرفض عندما يُدعى إلى ركوب سيارة بورش (...) إذا كنت تريد أن تفرض نفسك في الضاحية، يجب أن تكون إما وسيما، أو لاعب كرة قدم، أو أن تملك آخر موديل من أحذية نايك... لم يكن لي شيء من هذا، فكنت إذن أسرق أحذية نايك في ملعب الكرة بعد كل حصة تدريبية.(...) في اليوم الواحد، كنت أجني مقدار ما يتقاضاه والدي كراتب شهري. (...) لو كنت تماديت في السرقة وإشعال النار في السيارات مع الأصدقاء، لكنت اليوم غارقا للأبد. أصدقاء الزمن الماضي يوجدون اليوم في السجن في «بوا دارسي».»

كان جمال يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم رغم المستقبل الناجح الذي كان ينتظره في التجارة لو اجتهد قليلا


الشارع... لا شيء غير الشارع ليستقبل الأطفال الصغار بعد أن يعودوا من المدرسة. يخرج الأطفال إلى الشارع لأن ساعات عمل الأبوين طويلة، ولأن التلفزيون لا يقدم أشياء تثير الاهتمام. وفي الشارع تتعدد الخيارات بين لعب كرة القدم، أو مطــــــــــــــــــــاردة القطط والقبض عليها لتلوينها بالأخضر، أو الكتابة على الجدران، أو استفزاز حارسات شقق الكراء المعتدل، أو الذهاب في رحلة قنص الفئران الضخمة في حقول منطقة نوفل المجاورة... وعندما يكون الجو ماطرا أو باردا، يحتمي الجميع بمداخل العمارات أو بأقفاص المصاعد الحديدية لتبادل الحديث والسخرية والطرائف...
لقد ولت فترة روائح التوابل والنعناع المنبعثة من محلات باربس. تغير أفق جمال بعد أن صارت خلفيته، اليوم، هي ذلك الغيتو البئيس في الضاحية، بمساحاتها الشاسعة وانحصارها المعماري. 72 % من السكن الاجتماعي، معدل عطالة عال يتراوح بين 15 و20 % من السكان الناشطين: مدينة طراب تسجل أرقاما عالية على مستوى البطالة والإجرام في منطقة إفلين كلها.
في عالم مثل هذا، يرتسم المصير دون كثير أمل بالرغم من وجود المدرسة الابتدائية أوغوست رونوار من الجانب الآخر، ثم كوليج غوستاف كوربي، فالثانوية التقنية. ربما استطاع أحد أطفال الضاحية أن يلجها ليضمن حرفة تقيه شر البطالة، وتضمن له، على الأقل، حياة أفضل من حياة الأب والأم، اللذين يقول عنهما جمال: « كنت أراهما يعودان إلى البيت منهكين. لم أكن أريد أن أكون مثلهما». وربما كان المصير خارج هذا الفضاء كما تتمنى الأمهات، لأن الوافدين إلى هنا، لا يأتون إليه بنية البقاء فيه الحياة كلها؛ لكن شرط أن يجتهد الوافد ويكد في المدرسة بدل أن يقضي الوقت كله في الثرثرة.
أما جمال، فقد كان يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم كما الصغير أنيلكا، جاره في زنقة مولان- دو- لا- غاليت. لكن، لو اجتهد جمال بعض الشيء، فسيكون له مستقبل آخر ناجح في عالم التجارة. فهو يتمتع بكل الكفاءات اللازمة في هذا الميدان.
المجموعة المدرسية أوغوست- رونوار عبارة عن مجمع من الوحدات المستقلة، مكعبة الشكل، تشهد على حقبة الجمالية المعمارية التي سادت بداية الثمانينيات.
في الأقسام الابتدائية، لم يكن جمال الدبوز بالتلميذ المجتهد ولا بالتلميذ السيء؛ لكنه كان يتميز عن غيره في ساحة الاستراحة حيث يتدافع الأطفال المنتمون إلى مختلف الأطياف الإثنية: أغلبهم مغاربة وأفارقة جنوب الصحراء؛ لكن كان من بينهم أيضا برتغاليون و»فرنسيون أصليون». جمال الصغير كبر وسط هذه الفسيفساء الإثنية، حيث تلتقي الثقافات بكل تجلياتها.
خلال فترة الاستراحة ترى جمال يسحب التلميذات من شعرهن؛ وفي الفصل الدراسي يقلد الآخرين أثناء حصة التلاوة جهرا، فيغطي على صعوباته في قراءة النصوص باللجوء إلى خياله، فيختلق كلمات لا توجد في النص، ويضيف أخرى، ويحكي القصة على طريقته الخاصة، بعيدا عما يوجد في الكتاب المدرسي. يتذكر جمال تلك الأجواء: «كلما جاء دوري في حصة قراءة النصوص، كانت الأمور تنفلت مني فتنقلب الأمور إلى هزل جماعي»؛ وهو ما كان يتلقى عنه أصفارا من معلميه، وعقوبات يلزم بتبليغها إلى أبويه من أجل الإخبار بها والتوقيع عليها. إلا أن جمال لم يكن ليأسف لهذا كله، مادام يقول إنه هو الرابح طالما ينجح في تمتيع وتسلية أصدقائه. كانت حاجته الأولى هي التميز من خلال إثارة الضحك حوله. هذا هو جمال الدبوز الصغير. «لقد كنت صغير الهيأة الجسدية مقارنة مع أصدقائي، في المدرسة كما في الحي. والطريقة الوحيدة للتميز هي إما أن تكون قويا، أو أن تكون صاحب لسان كثير الكلام. كنت إذن صاحب لسان كثير الكلام.»
لكن الأمور في البيت لم تكن كما هي في الخارج. فمن مصلحته أن يراعي الهدوء الواجب في البيت بعد أن يعود الأب منهكا من عمله. نحيلا، أشعث الشعر، كث الشارب، صارم النظر... هكذا كان الأب. كان يعدم الصبر الذي يجعله يتحمل شقاوة الإبن جمال، بل إنه قد لا يتردد في سحب حزامه والضرب به. أما السباب، فلم يكن إلا عربيا. بالنسبة له، ما إن يتخطى أطفال الدبوز عتبة البيت نحو الداخل، إلا وأصبحوا في المغرب. «لم نكن نحتاج إلى حمل تأشيرة على جواز السفر، يعلق جمال. لا بل إن والدي اقتنى صحنا مقعرا ليدفعنا إلى التعلق ببرامج التلفزة المغربية. بفضل مثل هذه الأشياء، كانت لي دائما ثقافة مزدوجة».
مسألة الانتماء إلى فرنسا، لا يحتفظ منها أحمد الدبوز الأب إلا بتلك الليالي التي كان يحني فيها ظهره تحت الأرض، في ميتروهات باريس كعامل صيانة. «كان أبي يقوم بخدمات الصيانة في الميترو، يقول جمال. رئيسه في العمل كان لقيطا حقيقيا. ظل حياته كلها يكلفه بأعمال رديئة في المحطات الأكثر اتساخا، بينما أبي لم يكن ليعترض. كان يعتبر نفسه غريبا عن فرنسا. بالنسبة لي هذا ظلم.»