
كانت سنة 1992 على الأبواب. لائحة الضيوف المدعوين إلى الحفل الاعتيادي الخاص بـ «متمنيات القوى الحية للأمة» في فرنسا يوجد عليها اسم خالد القنديلي. شك البطل في صدقية الدعوة التي توصل بها رغم أنها تحمل دمغة رئاسة الجمهورية. فالرئيس، فرانسوا ميتران، شخصيا يدعوه إلى الحفل اعترافا منه بالدور الكبير الذي يلعبه البطل الفرنسي ذو الأصل المغربي في النسيج الجمعوي المغاربي وأوساط المهاجرين عموما. فكر البطل الشاب، لحظة، في مهاتفة الإليزي للتأكد من صحة الدعوة، إلا أنه تراجع. وفجأة، وقع بصره على عبارة تقول بضرورة الالتزام باللباس الرسمي، وتذكر أن دولابه خال من أي بذلة رسمية، ولا توجد فيه ولو ربطة عنق واحدة. فكان أول من فكر فيه هو صديق الطفولة في حي شنونسو بمدينة مو، إسحاق مارسيانو، اليهودي من أصل مغربي، الذي كان «يملك محلا لبيع الملابس للرجال في باربيس، يقول خالد. كاد يجن عندما أخبرته بأنني توصلت بدعوة من الإليزي، قبل أن يقلب المحل كله بحثا عن بذلة تناسبني. وجدنا البذلة المناسبة، ثم ربطة العنق ولم يبق لنا إلا الحذاء.» كانت فرصة لا تعوض بفضل صديقه خالد، سيتمكن إسحاق من إدخال أجمل بذلة له إلى الإليزي...
ها قد أصبح رئيس جمعية «رياضة- اندماج – شباب» جاهزا للموعد الكبير. لكن ثمة تفصيل حرص عليه البطل. فقد جرت العادة في المغرب بأن يحمل الضيف، الذي يدعى لأول مرة عند شخصيات مرموقة، هدية معه. ففكر القنديلي في أن يضحي بالقفازتين اللتين خاض بهما نزال بطولة العالم في التيكواندو وفاز بها. تأبط البطل العلبة التي وضع فيها الهدية واتجه رأسا إلى الإليزي. كان شعورا غريبا ذاك الذي استبد بهذا الشاب الذي أصبح يسمى بـ «مطفئ الحرائق» لمهارته في إخماد كل احتجاج أو مواجهة في أحياء أبناء المهاجرين. شعر بأنه صغير في قصر الإليزي، و»حمدا لله على أن تعرفت على نيلسون بايو، رئيس اللجنة الأولمبية الفرنسية، الذي سرعان ما هدأ من روعي، يعلق خالد.»
أنهى فرانسوا ميتران لتوه خطابه، وتوجه إلى مدعويه للسلام عليهم. وعندما اقترب من خالد القنديلي حبس الأخير أنفاسه، فبادر نيلسون بايو إلى محاولة تقديمه للرئيس قبل أن يقاطعه الأخير فجأة:» أعرف جيدا من هو هذا السيد. بالمناسبة، اكشف لنا شيئا عما يوجد في علبتك فقط لطمأنة جميع الحاضرين هنا...». فتح خالد العلبة بينما كان الجميع يضحك؛ إلا أن الرئيس لم يتوقف عن الحديث إلى ضيفه:» السيد القنديلي، يجب أن أراك في أقرب وقت ممكن.» فرد عليه الشاب، الذي تخلص من حرجه:»بكل سرور، السيد الرئيس.»
أسبوع بعد هذا اللقاء، كان خالد القنديلي يجلس وجها لوجه مع الرئيس ميتران في قصر الإليزي:»تكلم لي قليلا عن نفسك، أيها الشاب، واطلب ما يمكن أن أساعدك به.»
كان متوقعا أن لا يستغرق اللقاء أكثر من بضع دقائق، إلا أنه طال لأكثر من ساعة. «حكيت له كل شيء، يروي القنديلي. حدثته عن ولادتي في حي صفيحي بالرباط، يعقوب المنصور، سنة 1961، من أم دكالية وأب صحراوي، ورحيلنا إلى نانتير، واستقرارنا في حي صفيحي آخر، حي لافولي مع أمي حيث كان يشتغل أبي كبناء في ورشة قريبة من هناك.(...) لا ماء ولا كهرباء ولا قنوات لصرف المياه العادمة. في الشتاء كنا نغرق في الوحل. كنت أرى أمي دائما ملطخة بالوحل وهي تحمل مولودها الجديد بين يديها (...) انتقلنا بين العديد من الأحياء، إلى أن استقر بنا المقام في مدينة مو، بعمارة كبيرة بحي بيير كوليني. وبهذه المدينة أسست جمعية «رياضة- اندماج- شباب» (...).» لم يأت خالد إلى الإليزي ليثقل على الرئيس بحكاياته، إلا أنه جاء ليحصل على شيء لفائدة أولئك الذين يحتاجون للمساعدة. فطلب من الرئيس أن يشرفه بالحضور إلى أحد أصعب الأحياء في المدينة، حي إبيناي سور سين. كان خالد ينوي أن يدعو الرئيس إلى حفل تسليم الجوائز للمتميزين في مختلف المجالات التنافسية في إطار الجمعية التي يديرها القنديلي.
5 يونيو 1992، كانت أمسية استثنائية. غليان كبير في أحياء المهاجرين. مروحيات تطوف فوق العمارات السكنية، توجه أضواءها الكاشفة إلى جميع الأمكنة، بينما اتخذ رجال التدخل السريع ونخبة القناصين في الدرك أماكنهم على السطوح. قبل ذلك، كانت جميع هواتف المسؤولين بالجمعية وبالحي قد وضعت تحت التصنت لاستباق أي طارئ. فالحي معروف بصعوبته وبتوتره. وكان من بين الحاضرين المرموقين رفيق الحداوي، الوزير المغربي المكلف بالجالية المقيمة بالخارج في حكومة جلالة الملك الحسن الثاني، مرفوقا بمقربين اثنين من ولي العهد سيدي محمد، وهما فاضل بن يعيش وسمير اليازيدي. حلت اللحظة التي انتظرها الجميع. وصلت مروحية الرئيس، وانطلق الحفل وسط التزام كبير من الجميع بالهدوء والصمت بعد أن ألقى كلمة مختصرة.
وكما كان متوقعا، قدم جمال الدبوز أداء طيبا نال عنه تشجيعات الحضور وانفراج أسارير الرئيس، الذي بدا أنه أعجب بالسكيتش الذي ارتجله هذا الطفل الخفيف خفة الريشة. وفي السنة الموالية أقيم الحفل في معهد العالم العربي بحضور الرئيس مرة أخرى وعدد من الشخصيات الرسمية والفنية. كان هنالك سماعين، الوجه الفني المألوف، الذي شجع جمال وسانده في السير على طريق واحد مع فارق أن الأول عكس بسخريته الضاحية في الثمانينيات، والثاني عكس الضاحية زمن الراب والعنصرية والعنف.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire